لا بديل عن العودة، ثمة شيء حائر في عيونهم لا تستطيع أن تحدده، ربما كان الخوف من الغد، أو الرغبة في البقاء.. عندما تتحدث إليهم، تشعر باضطراب ما، كأنهم نقلوا إليك - عن طريق الخطأ - ما يحدث في الحرب، أو تحدثوا دون صوت عن مشاهد الذبح والقتل، كأنك سألتهم: ثم ماذا؟.. فحدثوك عن أصدقائهم الذين علقوا علي الحدود الليبية مع مصر وتونس.. هنا يصير سؤالك عبثياً: ألا تخشون الموت.. ألا تضعون حساباً للمليشيات الليبية؟ أحدهم قال: «هؤلاء جاهزون للسفر الآن»، مشيراً إلي رجال يصطفون حسب قوله - ليل نهار في طوابير أمام مكتب الخطوط الجوية الليبية، الكائن في شارع محمد فريد، بوسط القاهرة، أملا في الحصول علي تذكرة تعيدهم إلي ليبيا، حيث وطنهم الثاني، الذي وفر لهم الرزق علي مدار سنوات طويلة عاشوها هناك، ليس جميعهم شبابا، هناك أيضاً كبار السن، لم يجدوا طريقاً آخر لكسب لقمة العيش، سوي عبور الحدود، ملابسهم المتواضعة، تكشف أنهم مجبرون علي السفر.. لا خيار أمامهم سوي الخضوع للفقر أو التأقلم مع أجواء الحرب والغربة. لا أحد يخشي الرحيل، الجميع يجهز حقائبه، وفي يديه جواز سفر.. وشهادة وفاة، علها تكون المرة الأخيرة التي يزورون فيها القاهرة، الإحصاءات الرسمية في مصر تشير إلي أن مليونا و260 ألف مصري يعملون في ليبيا، أي دليل أكثر من ذلك يجعلنا نتأكد أن معركة لقمة العيش تفوق أي معركة.. إن رجلاً يترك أمه وأخواته، وربما زوجته وأطفاله، وهو يعلم جيداً أنه قد لا يعود، هي مأساة تتجسد علي وجوههم الشاحبة من فرط السهر والتفكير، ومن انتظار الفوز بتذكرة سفر.. لا تمر ساعة دون أن يسألوا الموظفين: هل ستتوافر التذاكر قبل انتهاء التأشيرة؟ الخوف من تغريمهم مبالغ أخري يفوق أي خوف، يقول علاء عبدالله: «لا تعتقدي أننا نكره بلدنا، عندما أعود في إجازة، أقٌبل أرضنا، هنا الأمان والحرية، وفي ليبيا الرزق، لم أجد في مصر وظيفة.. في الأسابيع الماضية تقدمت للحصول علي عمل في مشروع قناة السويس الجديدة، كنت مستعداً للحصول علي دخل أقل، في سبيل ضمان البقاء، لكنهم كانوا قد استكفوا من العمال». علاء الذي تعلن أظافر يديه التي يظهر عليها آثار طلاء أخضر اللون، عن مهنته كنقاش في ليبيا منذ 12 عاماً، اعتاد فيها علي أسلوبهم، وحياتهم، وكسب ثقتهم، حتي أنهم باتوا يطلبونه بالاسم. يحلم عبدالله بأن يستقر في مصر بعد ست سنوات، عندما يبلغ من العمر 35 عاماً. فهو مثل غيره من الشباب الذي يحلم بالزواج وتكوين بيت. يتذكر: «عندما كانت تشتعل الأحداث في ليبيا، كنت أنصح المصريين بألا يخرجوا من بيوتهم، لأن الحرب لا تفرق بين مواطن وغريب، الكل معرض للموت، لذا لا أخشي ما سيحدث، لأنني معرض أيضاً للموت في مصر، ولم يعد هناك بلد عربي لا يعيش اضطرابات.. تعرضت من قبل لطعنة في ظهري من أحد البلطجية الذين انتشروا في ليبيا بعد نهبهم لمخازن الذهب والسلاح عقب اغتيال معمر القذافي، لكنني داويت الجرح، واستكملت حياتي، ولا أستطيع أن أفعل سوي ذلك، لأنني هناك لا أنام دون عشاء». يحاول أحمد دسوقي، أن يبرر تصرف علاء، قائلاً بعينين تائهتين: «الراغبون في السفر، جميعهم خائفون، لا تصدقي أحداً يعلن بنبرة ثقة أن الأعمار بيد الله، نعم لا شك، لكن أنا لا أضمن روحي في ليبيا، أترك ثلاثة أطفال، وزوجتي، دون راع لهم، ولا أستطيع أن أبقي بجوارهم، من أين سيأتي الرزق؟.. عشرون عاماً قضيتها في مدن ليبيا، أتنقل من واحدة لأخري، أجمع أموالاً من عملي في النجارة، كل عام أفكر في العودة النهائية إلي مصر، لكن أطفالي يكبرون.. واحتياجاتهم تزداد، يظنون أنني جمعت ثروة طائلة، لكن ما لا يعرفونه أن ما أكسبه يكفيني بالكاد، أحصل علي راتب ستة آلاف جنيه شهرياً، أرسلها إلي عائلتي كي يعيشوا». أيام قليلة باقية علي انتهاء تأشيرة دسوقي، ليصبح بعدها مشرد الحلم في القاهرة، ليبدأ معاناة جديدة في الحصول علي تأشيرة أخري من ليبيا، وتضيع عليه الأموال التي أنفقها، أزمة أخري تواجههم، أن الحكومة تعطي أولوية السفر لليبيين الموجودين في مصر، أما من لديه «واسطة» من المصريين فيستطيع أن يحصل علي تذكرة فوراً، خاصة بعد وجود رغبة سياسية في عدم سفر المواطنين إلي ليبيا، بعد الأحداث العنيفة التي وقعت في أغسطس الماضي، في العاصمة طرابلس، بين الكتائب المسلحة والجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، التي أدت إلي هروب حوالي سبعة آلاف عامل مصري إلي الحدود. المشكلة الثالثة أن وزارة العمل والتأهيل الليبية قررت مطلع سبتمبر الماضي تقنين أوضاع العمال المصريين في ليبيا، لكثرة عددهم ودخولهم البلاد بطرق غير مشروعة، وبدء اعتمادها علي جلب عمالة من دول جنوب شرق آسيا.. عن هذا القرار يعلق علي الإمام: «لا يهم.. أغلب المصريين الذين سافروا أول مرة، لم يتعاقدوا مع جهة في ليبيا، كي توفر لهم وظيفة، يستطيع أي أحد أن يسافر، ويسأل عن تجمعات المصريين هناك، كي يندمج معهم، كما أن العمالة المصرية مطلوبة هناك، ويتواصلون معنا بصفة يومية». يحكي الإمام عن كيفية الهروب عبر الحدود: «القبائل في السلوم تستخدم طريقتين لتهريب المصريين إلي ليبيا؛ إما عن طريق عربات «دوبل كابينة»، تستطيع أن تنقل 17 مصرياً دفعة واحدة، بعد تغطيتهم، ومرورهم عبر الأماكن الحدودية التي لا توجد فيها قوات أمن، أو عن طريق عربات خزانات المياه التي لم يتم كشفها حتي الآن، إذ توجد في هذه العربات تجويفة تتسع ل 25 شخصا»، مشيراً إلي معرفته لهاتين الطريقتين من خلال المصريين الذين تم تهريبهم سابقاً. الإمام كان يعيش في جنوب ليبيا، حيث مخازن القماش الذي يمتلكها من ماله الخاص، يريد العودة إلي هناك لتصفية أمواله، وبيع البضائع، يطلب: «لا أريد من مصر شيئاً، أريد أن توفر لنا تذاكر، التأشيرات علي وشك الانتهاء، وهذا يعني أن السفر لن يكون قريباً». يضيف: «الأوضاع في الجنوب مستتبة نوعاً ما، باستثناء الصراعات القبلية علي البترول، أما طرابلس وبنغازي فمازالتا الأحداث فيهما مشتعلة، ولا ينصح أحد من العمال بالسفر هناك».