عرض "نساء قاسم أمين.. تحرير المرأة" الذي أطل علينا هذه الأيام في المسرح الكبير من أهم أعمال وليد عوني ويعد واحداً من إبداعاته في سلسلة "المصريات" الذي كان قدمه عام 2010 لفرقة الأوبرا للرقص المسرحي الحديث والذي يعاد تقديمه هذه الأيام علي المسرح الكبير في محاولة جادة من د. ايناس عبدالدايم لعودة الذاكرة لهذه الفرقة التي لم تقدم عروضاً من رصيدها الفني طوال أربع سنوات وقد سبق لنا أن نوهنا عن ذلك وطالبنا علي صفحات هذه الجريدة أن يعاد هذا العمل بالتحديد للرد علي كل ما يواجه المرأة المصرية ومازال من تحديات. استطاع عوني أن يقدم العرض برؤية فنية ناضجة وبسلاسة أكدت أن هذا الفنان وصل إلي قمة النضج وأنه يتمكن من أدواته الفنية باحتراف قائم علي موهبة ودراسة ومخزون عال من الفكر التصميمي الذي يجعل المتفرج وكأنه يقرأ مقالة بليغة عباراتها وكلماتها مفردات المسرح الحديث تصميم حركي للجسد وأزياء وديكور وموسيقي واضاءة وماكياج وكل هذا ينصهر في تصميم عام لخشبة المسرح. وقاسم أمين موضوع هذا العرض ولد عام 1863م وتوفي عام 1908م وهو من رواد النهضة المصرية ومقالاته وكتاباه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" أثارت جدلاً واسعاً عندما صدرت في أواخر القرن التاسع عشر حيث طالب بتحرير المرأة واحترام عقلها وفكرها والعودة إلي المفاهيم الصحيحة في الدين الحنيف وكانت دعوته هي البداية الحقيقية وراء تغيير النظرة الاجتماعية للمرأة وحصولها علي حقوقها تدريجياً. وليد في هذا العرض لم يتناول شخصية قاسم أمين كما حدث في أعماله السابق مع رموز النهضة المصرية شادي عبدالسلام وتحية حليم ومحمود مختار ومحمود سعيد ونجيب محفوظ وإنما قدم لنا سرداً تاريخياً عن حال المرأة المصرية وكفاحها من أجل التحرر من هذا المجتمع الذكوري ماراً بالدور الفعال لقاسم أمين في تحريرها من التقاليد الاجتماعية البالية. قدم لنا وليد عرضه في 3 مراحل الأولي جاءت سوداء قاتمة وهي وصف لحالها قبل النهضة ثم مرحلة انتقالية اختلط فيها اللونان الأسود والأبيض وهي فترة كفاحها والتي اختتمها بظهور قاسم أمين وأفكاره المستنيرة والتي أصر عليها رغم تعرضه للهجوم والنقد ثم المرحلة الأخيرة أي بعد التحرر مباشرة وجاءت مشرقة وبراقة. وبالرغم من انحسار العمل في 3 مراحل إلا أنه تم التعبير عنها بمشاهد كثيرة متلاحقة وصلت.. إلي 15 مشهداً في كل منها يضيف الجديد الذي يعبر عن فكرته مستخدماً كل ما لدي الفنان من عناصر فنية مغلفة بالرمز الهادف المعبر عن الفكرة والمحتشد بالابتكارات التي تحترم عقلية المشاهد وتشحذ تفكيره حيث يسرد الموضوع بلغة تقنية عالية من خلال سيناريو وثيق محكم مؤكداً للفكرة التي يريد طرحها. فتح الستار في بداية العرض عن الراقصات يرتدين السواد ويغطي وجوههن قماش أسود متدلي من السقف ويتحركن وهن في مكانهن ويجلس الرجال حيث تصدر منهم إشارات باليد فتتحرك المرأة تبعاً لها مما يرمز إلي تبعية المرأة للرجل وإلغاء عقلها وتقييدها بالتقاليد المجتمع وعاداته العقيمة وكانت هذه هي بداية فترة الجمود التي عبر عنها بالعديد من المشاهد فإذا كان استخدم هنا القماش الأسود والحركة المقيدة بالعادات نجده في مشهد آخر يعبر عن الفكرة بالخامة الصلبة حيث وقفت المرأة وراء رداء من الخشب تحرك يديها فقط ثم بدأ رأسها يظهر رويداً رويداً للتحرر وعندما تخرج من هذا القالب تقلب هذه الخشبة الصلبة لنجدها مليئة بالزهور. في مشهد آخر استخدم مادة القماش اللينة السوداء في غطاء وجهها ورأسها رمزاً لتجاهل عقلها وشخصيتها بأن جعلها مثل العروسة "الماريونيت" يحركها الرجل كما يشاء في مشهد بديع أداه أعضاء الفرقة وحاولت فيه الراقصات التخلص من السيطرة ومن النظرة الظالمة لهم في المجتمع بالحركة ومحاولة التحرر من الأغطية السوداء ولكن المجتمع الرجولي وقف ضد هذا ولكن قابله إصرار من المرأة في إشارة واضحة للإرهاصات التي سبقت قاسم أمين وقد أجاد وليد عوني في التعبير عن هذه الفترة بكل الأدوات.. ثم ظهر قاسم أمين ليوزع عليهم الكتب رمزاً لأفكاره في كتابيه المشهورين. ونجد المرأة هنا تؤدي حركة بيديها وكأنها تشرب مؤكداً علي فكرة أن العلم هو الذي حررها وجعل هذا بداية للمرحلة الثانية الانتقالية التي اختلط فيها اللونان الأبيض والأسود بين الرجال والنساء أي أن الفكر في المجتمع ككل أخذ في التغيير لصالح المرأة ثم تتدرج لتصبح كل هذه المرحلة بيضاء وعبر عنها بوسائل كثيرة منها الإضاءة المميزة والأبواب البيضاء الشفافة مستفيداً من فن "السلويت" الذي أعطي ثراء وكثافة علي المسرح حيث الراقصون يتحركون في المقدمة وآخرون وراء هذه الأبواب الشفافة وفي هذه المرحلة عبر عن الحرية بمشاهد متلاحقة في الخلفية لوجوه الراقصات وببعض كلمات وأسماء وأعلام هذه الفترة من النساء والرجال الذين مهدوا للنهضة وعاصروها وكان لهم دور بارز فيها مثل مي زيادة والأميرة نازلي وهدي شعراوي وباحثة البادية وصفية زغلول ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وسعد زغلول. أما المرحلة الثالثة والأخيرة أي بعد التحرر والتي جاءت براقة وذات ألوان متنوعة يرتديها الراقصون والراقصات فجاء العمل مكملاً لأعمال وليد وإبداعاته ولكنه امتاز بالانتقال السلس بين المشاهد وبالرغم من كثرة الحركات إلا أنها كانت موظفة بدقة وجمال ولم تكن هناك أية حركة عشوائية علي الاطلاق ولهذا كان العمل سريعاً بعيداً عن الملل تخرج من المسرح ليظل عالقاً بفكرك تفكر فيه وتستعيد مشاهده وتعقد مقارنة غير مقصودة من الفنان بين الماضي والحاضر. أضاف وليد في هذه النسخة من العمل فقرة عن الفن وخاصة فنانات السينما اللاتاي يعد عملهن من علامات النهضة ونتاجاً لجهد قاسم أمين وأفكاره وقد أكد وليد ذلك من خلال ذكر أسمائهم وصورهم علي الشاشة الخلفية وختمها بصورة لسيدة الشاشة فاتن حمامة. من أدوات وليد الهامة في هذا العمل الموسيقي التي تم اختيارها بعناية والتي أضافت جمالاً وبعداً وعمقاً للأحداث وقد تنوعت بين موسيقي غربية حديثة لأرمسترونج وأخري من إيران وعزف منفرد من لبنان تشكيلة متنوعة وإذا لم يكن في النسخة الأولي قد أخذ عليه انه لم يستعن بلحن مصري إلا أنه في هذه المرة استمعنا إلي صوت أم كلثوم في لحن السنباطي "يا ظالمني" والذي أعطي دلالات كثيرة عمقت فكرته.. إذا كان وليد عوني استأثر بكل حديثنا لأنه هذه المرة يحمل عبء العمل بالكامل بمفرده إلا أن أعضاء الفرقة من الراقصين والراقصات منفذي فكره وصلوا إلي درجة عالية من النضح وأيضاً المهارة الفائقة التي تسترعي الانتباه وتضعهم في مقام الراقصين العالميين.. حيث يتضح التدريب الشاق وفهمهم الكامل للموضوع الذي يتم تناوله والهدف من كل حركة يؤدونها علي المسرح أما فريق العمل المنفذ مع وليد من إضاءة وأزياء وديكور وصوت وماكياج وجرافيك هم أيضاً يستحقون كل التحية. وأخيراً.. نتمني أن يتم تقديم رصيد هذه الفرقة من عروض وليد وأن يقدم لنا أعمالاً جديدة ليسير الأستاذ بجانب تلاميذه نري إبداعاتهم الجديدة ونستمتع بلغته الحركية وفكره التصميمي وخبرته في مجال يعد هو مؤسسه في مصر والبلاد العربية.