ينصح الأطباء بألا تجلس إلي المكتب أكثر من ساعة.. قم غير وضعك لخمس دقائق علي الأقل.. وأحاول أن ألزم نفسي بهذه التعليمات في جدول القراءة الذي يبدأ بعد الفجر عادة وجدول الكتابة الذي يبدأ بعد العاشرة صباحاً.. لكن منها لله "سلمي" ألزمتني المكتب لأكثر من أربع ساعات متواصلة مع روايتها "الكنز" حتي تنبهت زوجتي في العاشرة والنصف ونبهتني ولكن بعد فوات الأوان.. فقد أسلمتني "سلمي" إلي آلام الظهر المبرحة.. وألزمتني السرير.. وأعادتني إلي كورس علاج الغضروف المكثف.. وحرمتني من رحلة ثقافية ممتعة إلي الواحات البحرية مع رفاق رائعين اعتدت عليها في مثل هذا التوقيت كل عام. وسلمي لاجرلوف هي الأديبة السويدية الشهيرة الحائزة علي جائزة نوبل.. ورائعتها "الكنز" واحدة من أجمل الروايات التي اهتمت الدار المصرية اللبنانية بنشرها ضمن سلسلة "روايات جائزة نوبل" التي تخصصت في تقديم الأعمال الخالدة للأدباء الحائزين علي جائزة نوبل إلي قراء العربية حتي يكونوا علي اتصال بقمم الإبداع العالمي.. وفي هذه السلسلة أصدرت الدار حوالي 20 رواية منها "اللاأخلاقي" لأندريه جيد و"العجوز والبحر" لإرنست همنجواي و"الأم الكبيرة" لجابرييل جارسيا ماركيز و"الغريب" لألبيركامي. ولدت سلمي لاجرلوف في السويد عام 1858 وتعرضت في طفولتها لحادث خلف عندها عرجاً استمر معها طوال حياتها.. لكنها تحدت الإعاقة وأكملت تعليمها ونشرت أول مجموعة قصصية عام 1894 بعنوان "صلات خفية".. وفي 1909 حصلت علي جائزة نوبل في الآداب وكانت أول كاتبة تنال هذا الشرف.. ثم قل إنتاجها الأدبي خلال الحرب العالمية الأولي لأنها كانت من دعاة السلام مما تسبب في منع كتبها في تلك السنوات.. كما اهتمت بقضايا المرأة واستمرت في الإنتاج الأدبي حتي توفيت في 16 مارس .1940 أصدرت "سلمي" رواية الكنز عام 1904 وتحولت إلي فيلم سينمائي ناجح بعنوان "كنز سير آرن" للمخرج النمساوي موريتز ستيلر.. وهي رواية جميلة تنقل القارئ إلي عالم عجائبي يتجاوز فيه الواقع مع ما وراء الواقع قبل أن يدرك النقد الأدبي ما يعرف الآن ب "الواقعية السحرية".. وقد استطاع المترجم حسين عيد أن ينقلها إلي العربية في لغة سهلة معبرة وموحية وأن يحافظ علي شاعريتها ويبرز قدرات الكاتبة في الحبكة الفنية والسرد المعبأ بالحكايات والأساطير. تقدم الرواية قصة الكاهن "ارن" الذي يحتفظ بكنز في بيته الملاصق للكنيسة التي يرعاها.. تعيش معه زوجته وابنة أخته وفتاة يتيمة يرعاها "الزاليل".. ويفتح الكاهن بيته لمن حوله ولعابري السبيل ليأكلوا ويأنسوا بحديثه.. وفي إحدي الليالي يفاجأ الناس بحريق هائل في بيت الكاهن ويكتشفون أن الكاهن وزوجته وابنة أخته قد قتلوا علي أيدي اللصوص الاسكتلنديين الثلاثة الذين قاموا بسرقة الكنز بينما نجت "الزاليل" وحدها.. ثم تتطور الأحداث لتقع "الزاليل" في قصة حب مع سير "آرشي" الثري الذي تكتشف فيما بعد أنه أحد اللصوص الثلاثة فتقوم بالإبلاغ عنه مضحية بحبها.. بل إنها تضحي بحياتها خلال رحلة هرب حبيبها الذي صنع منها درعاً يحميه من الحراس الذين يسعون للقبض عليه. ويتجلي جانب ما وراء الواقع في عدة مشاهد في الرواية.. تبدأ بإخبار زوجة الكاهن لمن حولها علي مائدة الطعام أنها تري من وراء الحجب ثلاثة أشخاص يشحذون سكاكينهم للهجوم عليهم لكن زوجها لم يصدق النبوءة إلا عندما وقعت الواقعة.. ثم مشهد خروج أشباح الموتي من خلال الظلال وتكليف الكاهن لابنة أخته الميتة بمهمة البحث عن القتلة وعودة ابنة الأخت هذه إلي الواقع لكي تكشف القاتل أمام حبيبته "الزاليل". ورغم كل ما سببته لي "سلمي" من ألم ووجع إلا أن الرواية تستحق.. ومتعة القراءة مثل كل متعة أخري في الحياة لها ثمن.