إذا كان المازني قد ترجم يوماً مواقف روائية من الأدب الأوروبي. وغزلها في النسيج الفني لبعض أعماله رواية "إبراهيم الكاتب" علي وجه التحديد دون أن يشير إلي ذلك من قريب أو بعيد. لولا إلحاح نقاد عصره وشطارتهم.. فإن مصطفي لطفي المنفلوطي لم يحاول أن ينسب إلي نفسه ما ليس له.. بل كان الرجل غاية في الوضوح والصراحة حين اعترف وهو ويدفع بأعماله إلي المطبعة أنه قد عرب بعض تلك الأعمال. ونقل بعضها الآخر عن لغات أوروبية. دون أن يكون قد تولي الترجمة بنفسه. لأنه لم يكن يحسن إلا العربية. كان أصدقاؤه يتولون الترجمة. في حين يلبس المنفلوطي الرواية أو القصة ثوباً عربياً. ويسمي أبطالها أسماء عربية. وتجري الأحداث في جو عربي. وربما ينقل الرواية إلي العربية. بمعني أنه يكتبها بأسلوبه دون أن يبدل في جو القصة ولا أسماء أبطالها. وإن أنطقهم بجمل لا ينطقها الأوروبيون عادة كآيات من القرآن الكريم. أو أحاديث الرسول. أو بعض الأمثال والحكم التراثية. يقول المنفلوطي في مقدمته لمسرحية الشاعر. أو سيرانو دي برجراك: "أطلعني حضرة الصديق الكريم الدكتور محمد عبدالسلام الجندي علي هذه الرواية التي عربها عن اللغة الفرنسية تعريبا حرفيا. حافظ فيه علي الأصل محافظة دقيقة. وطلب إلي أن أهذب عبارتها ليقدمها إلي فرقة تمثيلية".. فالرجل إذن لم يدع ترجمة المسرحية. وحين صدرت في كتاب. قدمتها مجلة "المقتطف" بالقول: رواية الشاعر أو سيرانو دي برجراك. تتضمن خلاصة الرواية التمثيلية المشهورة التي وضعها إدمون روستان الشاعر الفرنسي المعروف. بقلم الكاتب اللبق السيد مصطفي المنفلوطي. وهي كسائر ما صدر من قلمه في سلامة الديباجة وجودة الأسلوب. وخلوه من الشذوذ. قدمها بأربعة وعشرين رسماً تمثل وقائع الرواية المختلفة. يليها مقدمة ذكر فيها أن حضرة الدكتور محمد عبدالسلام الجندي عرب الرواية من الفرنسية تعربا حرفيا. حافظ فيه علي الأصل محافظة دقيقة. فطلب إليه أن يهذب عبارتها ليقدمها إلي فرقة تمثيلية. ففعل. ويلي ذلك ترجمة المؤلف بقلم حضرة الدكتور المعرب. ثم فصل في اشخاص الرواية. يليه فصول الرواية. وهي خمسة "المقتطف. اغسطس 1921". وكما قلت. فإن الرجل كان يمارس عمله الطريف والغريب! دون أن يزعم لنفسه ما ليس له. وقدم بهذا الأسلوب: ماجدولين. وفي سبيل التاج. وسيرانو دي براجراك وغيرها. فضلاً عن بعض لوحات النظرات والعبرات.. وكان شباب العصر يقرأ تلك الأعمال. ويبكي.. والتعبير لأستاذنا نجيب محفوظ! لكن ناقداً فاضلاً يفاجئنا في مجلة بيروتية. بدراسة مقارنة تخلص إلي اتهام المنفلوطي بأنه كان يفعل ما أعلن المنفلوطي نفسه أنه كان يفعله. العناوين الزاعقة تتصدر المقال: قضية أدبية لم يمر عليها الزمن.. عرض ومقارنة وتحليل.. قصة واحدة كتبها كل من جبران والمنفلوطي.. صراخ القبور قصة لجبران. أعاد المنفلوطي صياغتها وسماها العقاب. وكما أشار الناقد. فقد كتب المنفلوطي في نهاية القصة الحاشية التالية: "وضعت هذه القصة علي نسق قصة أمريكية اسمها "صراخ القبور".. وهو بالفعل اسم القصة الجبرانية. فقد اكتفي طبعا بالسؤال عن اسم القصة. وجنسيتها. ثم أشار إلي ذلك. دون أن يشغله وهذا خطؤه الوحيد إذا كانت القصة لجبران أو لسواه. تصور الرجل أن القصة لكاتب أمريكي. وأعاد صياغتها علي هذا الأساس.. ولو أنه كان يقصد السرقة لبدل وغير وأضاف. ثم أهمل الإشارة إلي أنه قد حاكي في قصته قصة أمريكية. أجهد الناقد نفسه. وأجهدنا.. ليخلص إلي نتيجة خطيرة. هي أن المنفلوطي كان يعرب. أو ينقل. إلي العربية بتصرف أعمالا ترجمها له الآخرون. هل كان المنفلوطي يدعي غير هذا؟!