لا غالب إلا الله فلماذا يبكي عبدالله.. ثمة صداقة أو علاقة من نوع خاص وبحكم هواية علاء الدين الزيني المفضلة بقراءة كل ما يقع تحت يديه من صحف ودوريات. تبلورت تلك الهواية في صفة صداقة خاصة مع رجل عجوز من العراقيين.. تبادل معه الرؤي الثقافية وحب القراءة والاطلاع.. كان عراقياً عجوزاً طيباً. يقترب من عامه السبعين وصاحب المكتبة الكبيرة الواسعة أول شارع السنترال من ناحية التقائه بشارع الحسين بمدينة الكوت عاصمة اقليم واسط بالعراق.. أحس علاء الدين في داخل نفسه بالحسد والتمني لو أن يري مثل تلك المكتبة العامرة وما تحوي من نفائس الكتب القديم منها والحديث في مسقط رأسه بمصر.. صاحب المكان الرجل ممتد العمر اسمه "شكري البصري" يمتلك حيوية شاب في الثلاثين.. كان رأي علاء وشاهده يزور المكتبة يومياً. لمحه وهو يتفحص الكتب ولاحظ انه اشتري عناوين بعينها. وبدأ حوارهما يوماً عن كتاب أكاديمي حول حضارة أكد وسومر.. تعددت زيارات علاء الدين للمكتبة بمرور الأيام.. أحيانا يجلس ويتحاور مع عم شكري الرابض وراء مكتبه يختلس النظرات إلي ضيفه المصري من وراء زجاج نظارته الطبية المنزلقة فوق أرنبة أنفه.. يخوض شكري العجوز عند حواره ومناقشته في كل شيء.. الفلسفة. التاريخ. العلوم. الأدب. الدين. الأخلاق. التراث. الأساطير والميثولوجيا. الانثربولوجي والاجتماع. والسياسة التي يقول عنها انها أم الجميع!.. إن فسدت ضل أبناؤها كلهم. وإن صلحت انصلح حال أولادها جميعاً.. إذا استدعت الضرورة ومنطقية الحوار اقتحام أسوار ما يجري في الوطن.. استدعي الرجل العجوز بسرعة حرصه وحذره. يرفع نظارته ويثبتها فوق عينيه. يستخدم في كلماته الرمز والتورية. لا ينتقد أو يقيم. علي أية حال كان صاحب شخصية مهذبة متحضرة مثقفة.. تعود علاء الدين المواظبة علي زيارة عم شكري البصري في مكتبته يقضي معه الوقت يتحدثان عن الكتب وأحدث الإصدارات والعناوين. ويشتري ما تسمح به ميزانيته الضئيلة.. صباح آخر يوم من "ديسمبر" لعام سبعة وثمانين وتسعمائة وألف هرول علاء الدين الزيني تحت رذاذ المطر. يتواري بالجدران حتي وصل تحت مظلة مكتبة شكري البصري. رأي علاء وراء زجاج باب المدخل ونافذة العرض.. الرفرف وسندات العرض الزاخرة بمئات الإصدارات والعناوين. كان عم شكري وراء مكتبه يتجه بجسده فوق المقعد الدوار يواجه ما يبثه التليفزيون الصغير فوق قاعدته أعلي اليمين.. دفع علاء الباب الزجاجي. دخل ثم أحكم رد الباب إلي مكانه. التفت إليه الرجل العجوز المتابع لنشرة الأخبار الصباحية. ابتسم وأشار بيده إلي المقعد الخالي أمام المكتب. ألقي علاء التحية علي عم شكري وجلس يتابع معه النشرة الاخبارية.. تجول علاء بعينيه حوله. يدقق ويبحث في عناوين الكتب والإصدارات المعروضة قريبا من رؤية عينيه. مد ذراعه وتناول من فوق قاعدة لعرض الصحف والدوريات مجلة القدس عدد أكتوبر.. قلب في صفحاتها. كان التليفزيون يعرض صور الأمس من الجبهة الشرقية ويعلق عليها.. لمح علاء داخل العدد بين يديه صورة لشاب. حدثه قلبه أنه يعرفه!.. قرأ التعريف تحت الصورة. فزادت سرعة نبضات قلبه. دقق مرة أخري.. في الشكل والمكتوب: "الشهيد المناضل درويش الزغبي..".. غاب شعور علاء عما حوله. غرق داخل دوامة سطور وريبورتاج يغطي أربع صفحات. صور ملونة. وصور بالأبيض والأسود. عائلة الزغبي مجتمعة حولها أطفالها الضاحكين. أخري للجد والجدة العجوزين تحددت وتعمقت قسوة الحياة بحفر أخاديدها وتجاعيدها فوق وجهيهما وارتسمت تظرة الشقاء المطلة من داخل عينيهما.. وتحكي الكلمات المفجعة قصة موتيهما تحت أنقاض بيتهما الفقير داخل المخيم بالضفة بفعل صواريخ طائرات الكوبرا.. استمر السطور باندلاع نيرانها تخبر عن وجود الشياطين بين البشر ويحكي التحقيق كيفية اغتيال المناضل درويش الزغبي داخل أكثر شوارع عمان حركة وهو بين أصدقائه. وتباهي زبانية الموساد انهم أسقطوا واحد من أكثر الرجال ازعاجاً للصهيونية.. طفرت دمعة حارقة فوق صدغ علاء وهو يتحقق من الصورة أبيض وأسود غير واضحة المعالم لهذا الرجل يحمل سلاحه فوق صدره. يحتضنه. وتتدلي فوق جسده عشرات العبوات الناسفة. يعصب رأسه بمنديل مطبوع عليه بخط واضح "لا إله إلا الله محمداً رسول الله".. ويحيط عنقه بالكوفية الفلسطينية. عرفه علاء.. انه هو وليس أحداً آخر. هذا هو الذي كاد ينفجر بينهم حسرة وكمداً عشرات المرات. هو بعينه صديقه الصادق الهاديء "شادي الزغبي".. كتبوا تحت الصورة.. الشهيد فادي الوطن.. يقول التحقيق ما معناه.. عاد شادي من غربته ليجد أمه وأباه وأخته وأولادها وزوجة أخيه وأطفالها. كلهم سقطوا ما بين قتيل وجريح مشوه لا رجاء فيه أو منه تحت أنقاض بيتهم الهش داخل حواري المخيم العطنة.. كما استدرجوا أخاه الذي جاء مسرعاً حذراً. لكنهم يتصيدونه داخل البرزخ وقبل عبوره إلي الضفة المحتلة وفي أهم شوارع البرزخ!.. لا رادع ولا معقب.. جريمة من عشرات الجرائم والانتهاكات اليومية.. والذي كان من الرجل شادي الموتور في عائلته إلا أن يرد بالمتوفر لديه. هذا إن كان يمتلك شعرة من احساس أو دافقة من شعور بانتمائه إلي أمه وأبيه واخوته. أو إن كانت عنده نخوة تأبي الظلم والقهر الواقعين ولا يلتفت إليهما أحد ولا يوجد من يردهما عنه وعن أهله!.. ما بقي له إلا أن يصرخ بأعلي ما يستطيع من صوت. أن ينفجر فيهم بجسده المنهك وروحه المعذبة داخل مطعم كبير بضواحي القدسالغربية يمتليء بجنس الأعداء العسكريين وعشرات المستوطنين المتعصبين!... أغلق علاء صفحات المجلة بأصابع مرتعشة. أعادها إلي مكانها. كان داخله يتقلب ويعاني. ورفضت دموعه الانطلاق. امتنعت وتجمعت داخل صفحة عينيه. ارتعشت وجنتاه بحركة عصبية ملحوظة. تنهد بلوعة ودون إرادته. التفت إليه شكري البصري المنشغل بالأخبار. فرأي وجهه الشاحب وحركة وجهه المتوترة وعينيه المعكرتين. استدار عم شكري بكرسيه وواجه علاء. سأله مشفقاً: ما لك يا ولد؟!.. ايش بك. احك لي. احك. فرج عن روحك. قل.. اشركنا معك.. وقف علاء يتأهب للخروج وقال: لا شيء يا عم شكري.. إلا الألم معشش في صدري.. والصداع يفرت رأسي. وانقباض وحزن من جهنم في قلبي!.. يا ريتني ما كنت أنا. وياريتني مت يوم اتولدت!!.. وقف شكري البصري مرتجاً. تكلم منزعجاً: يا ساتر.. يا الله.. يا علي!.. أجيب لك طبيب يا ولدي؟.. أطلب لك دور حامض يروقك؟.. يا تري صابتك وحسيت بها الأعراض قبل.. انفلتت دمعتان كبيرتان من عيني علاء. قال: من يوم ما عرفت الدنيا يا عم شكري والألم بيسكن قلبي وعقلي.. ويشتد ويزيد لما توصلني الحقيقة المرة. في لحظتها يفترسني الوجع والقهر زي الحين... مرت الأيام وازدادت ثقة الصداقة والصحبة الجميلة بين علاء الدين وعم شكري البصري.. وأيضاً ضاقت وحشة الغربة وعنادها علي علاء في مدينة الكوت. فقرر المغادرة ولو مؤقتاً مع صاحب له مصري إلي بغداد.. ذهب علاء لوداع صديقه العراقي الطيب العجوز. كان له يومان لم يزره. وكانت الشمس تفترش شوارع ومباني مدينة الكوت والساعة لم تتعد العاشرة صباحاً. الشوارع والطقس والأصوات ساكنة بشكل مريب!.. لاحظ علاء من بعيد ولأول مرة أبواب المكتبة الحديدية مسدلة ومغلقة بالأقفال. التبس عليه الأمر حتي امتلكه الظن انه أخطأ المكان.. عندما اقترب واجهته لوحة من الورق المقوي تعلوها كتابة بخط أسود عريض: "في رحاب الله وجنته. وبإذنه تعالي.. الحاج شكري حافظ البصري و..."... لم يكمل علاء الدين قراءة النعي. لم يهمه معرفة تاريخ الوفاة ولا مكان العزاء ولا أي شيء آخر. كل ما همه من دنيا مدينة الكوت كان هذا الرجل الطيب الذي رحل في غفلة منه وقبل أن يودعه. اكتنفه شعور عميق وآسف بأنه كان يختزن بداخله عشرات الأسئلة التي ظن أن لن يجيبه عليها غير شكري البصري!!.. وكان يقنع نفسه بالبقاء والانتظار في الكوت حتي يغتنم فرصة توجيه أسئلته وتلقي الاجابات من الرجل القديم المفعم بالحكمة والطيبة. ها هي الفرصة تضيع وها هو الرجل يرحل رحلة اللا عودة دون إنذار أو رادع.. رحمك الله برحمته الواسعة وطيب ثراك يا عم شكري...