بين وميض الميلاد ولحظات الموت عشت يا سيدي حياة حافلة بالأتراح ضنينة بالأفراح. فلقد وُلِدتَ بقرية شباس عمير مركز قلين التابع لمحافظة كفر الشيخ . تلك المحافظة التي شهدت ميلاد حورس ابن ايزيس تلك المرأة التي راحت تجمع بإصرار عجيب أشلاء زوجها بعد أن مزقه ست. هذا الإصرار كان ماثلا أمام عينيك وأنت تحيا في أسرة فقيرة. فلم تستسلم لدوامات اليأس وأمواج الإحباط. فشرعت تعمل رغم سنك الصغيرة في مهن شتَّي. كجامع قطن. وحدَّاد. ونجار. وبائع جائل في المواصلات العامة. كنت لا تجد غضاضة في ذلك. فالسعي إلي لقمة العيش بعرق الوجه طريق سوية. تصديتَ للفقر كما تصدي أبناء قريتك للحملة الفرنسية حين قدومها من رشيد. وبدأتَ رحلة الكتابة مستلهماً تاريخ أجدادك الذين شيدوا تلالاً تناثرت علي أرض إقليمك. ونحتوا التماثيل لحورس الصقر. ورمسيس الثاني. وغيرهما. ونحتوا علي لوحات الجرانيت أسماء ملوكهم. كنت تعي قيمة محافظتك وطهارتها. فقد مرت بها العائلة المقدسة في رحلتها المباركة لتري في ترابها ملح الأرض. وفي أجوائها نور العالم. وكنت تعرف أن إقليمك أنجب عمالقة عظاماً كسعد زغلول في السياسة. وإبراهيم الدسوقي في التصوف. وعلي إبراهيم في الطب. وعلي مبارك في نهضة التعليم. ويوسف غراب في الأدب. فقررتَ يا سيدي أن تسلك سبلهم في الرفعة والرُّقي. وكانت ذكراهم حافزاً يحثك علي المضي قدماً في طريق صعبة عنوانها القصة والرواية حتي صار اسمك يعانق الآفاق. لقد رفعتَ يا سيدي قواعد ثقافتك من تراث أصيل "الفلكلور المصري الخيال الشعبي السّير الملاحم". واطلعتَ ما استطعت علي آداب عالمية ونهلت من سطور كُتَّاب عاصرتهم "طه حسين توفيق الحكيم نجيب محفوظ" وغيرهم. وكان واقعك المصري شغلك الشاغل بما مرَّ به من انتصارات وانكسارات وطبقات مهمَّشة من حرفيين وفلاحين. كنا نري يا سيدي في رواياتك مساحات من حقول خضراء. وأشجاراً سامقة. وتُرعاً ممتدة. ومدقات ترابية. وبنايات لبنية. ونوارج. وحمائم. وطيوراً. ونشم عبق نعناع الجناين. ونلمس الصبار. ونقتاد البغال. ونجمع لوزات القطن. ونحصد الزرع. وننثر البذور. لن ننسي يا سيدي منامات عم أحمد السماك لقد سبرت في هذه الرواية أغوار شخصية بسيطة. وألقيت الأضواء عليها من خلال أحلامها ورؤاها التي هي رؤانا جميعاً. جئت بهذه الشخصية لتؤكد إنسانية الإنسان أياً كان مكانه ومكانته. لقد كان انحيازك لكل المهمشين والبسطاء انحيازاً يكشف عن مساحاتي داجية في أعماق هؤلاء. كنت تكتب بإرادة لا تنكسر. وعزيمة لا تفتر. وإحساس لا يموت. كنت تكتب بقلب شاب. ولغة فتيَّة. حتي أنك قلت: إحساس الكبر لا يلائمني كم كانت نظرتك ثاقبة ورؤيتك واثقة وأنت تقول علي لسان إحدي شخوصك: لا تخف إن البلل لن يأتيك من ماء البحر بل من الخوف. والغرق ليس في أعماق البحر بل في أعماقك أنتَ. ولقد أجدتَ يا سيدي رصد القرية المصرية وأحوالها بدقة مرهفة بصورة جعلت نجيب محفوظ يحجم عن تناول القرية ويقول: كيف أكتب عن القرية المصرية ولدينا خيري شلبي. لقد كنت جديراً بأن تُقدِم لك السينما المصرية بعض رواياتك. وكان فيلم الشطار عن رواية بنفس العنوان. وكذلك سارق الفرح. وقدم لك التلفزيون مسلسلات الكومي عن ثلاثيتك الخالدة الأمالي. والوتد. ووكالة عطية. ولأن رواياتك تخاطب الإنسان عامة بصرف النظر عن دينه ولونه ولسانه وجنسه فقد تُرْجِمَتْ معظمها إلي الروسية والصينية والإنجليزية والفرنسية والأوردية والعبرية والإيطالية. ولقد تُوِجتَ عن جدارة بأوسمة وجوائز لعل أهمها وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولي. وجائزة أفضل رواية عربية عن رائعتك وكالة عطية وجائزة أفضل رواية عن الصهاريج كأفضل كتاب عربي من معرض القاهرة للكتاب. ونلت جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2005م. ولكونك تستحق أكثر التفتت إليك الدراسات الأكاديمية. فتناولت أعمالك رسائل ماجستير ودكتوراه في مصر والسعودية وألمانيا. ولقد توليت يا سيدي رئاسة تحرير سلسلة الدراسات الشعبية لتتهيأ لك الفرصة في الحفاظ علي تراثنا من سير وملاحم وبطولات خارقة. وها أنتَ تعلن علي العالم أن الواقعية السحرية ليست من ابتداع الرواية الأمريكية اللاتينية. وإنما أمريكا اللاتينية قد أخذتها وتعلمتها من الملاحم الشعبية العربية عبر الثقافة الأندلسية الكامنة في اللغة الأسبانية . وإذا كنا يا سيدي قد اختلفنا معك أثناء رئاستك لتحرير مجلة الشعر حول ألوان الشعر وأطياف الشعراء. فإن الخلاف في الرأي لم يفسد للود قضية. هكذا تعلمنا منك. إن ما حققتَه يا سيدي لا يمكن لأحد أن يهون منه أو يتجاهله. ذلك أن مسيرتك الأدبية والتي امتدت لأكثر من نصف قرن صارت نجما يهتدي به متذوقو الأدب الراقي ودارسوه في وطننا العربي. أما عن الموت فقد اقتربتَ منه وصاحبته. واخترت المقابر مكاناً تكتب فيه روائع أعمالك. وكأنك بذلك تقيم علاقة حميمة بين ثالوث غير قابل للانفصام "أنتَ والموتُ والإبداع". ويأتي شعور اقتراب الموت. فتواصل الكتابة وتؤكد: عندما يشعر الإنسان أن الموت قريب يحاول أن يفعل شيئاً مفيداً قبل الرحيل. وأَشْهَدُ يا سيدي ويشهد معي أترابك وعشاق إبداعك وتلاميذك ومريدوك أن ما أصدرتَه من روايات ومجموعات قصصية وكتابات أسهمت بشكل كبير في إثراء ثقافتنا العربية المعاصرة. واليوم يا سيدي تمر سنوات ثلاث علي رحيلك. هو قدرك وقدرنا. فلا نملك غير الترحم عليك. والدعاء لك. والحفاظ ما استطعنا - علي ماانجزت