الحديث لا يزال موصولاً عن "الخنساء" تلك السيدة التي ضربت المثل في كل تصرفاتها.. عفة وطهارة. وتربية للأبناء بصورة تجمع بين القسوة والرحمة. تميزت عن بنات جيلها والأجيال السابقة بإجادتها لفن الشعر العربي. وقد تجلي ذلك في قولها لأبنائها حفزاً لهم علي خوض المعارك مع جيوش المسلمين في معركة القادسية فقد ذكرت علي مسامعهم قول الله تعالي في سورة آل عمران: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" 200 آل عمران. ثم مضت الخنساء بنت عمرو تقول: "يا بني إذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلي قتال عدوكم مستبصرين وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمموا وطيسها وجالدوا عن احتدام المعارك. تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة كلما تخرج من صدر أم يقطر حناناً علي أبنائها لكنها في نفس الوقت تري أن واجب الدفاع عن الحق والعدل والوطن تتواري أمام عواطف أخري إنه نور الإيمان الذي يتجلي في صدر هذه الأم التي استطاعت ان تمتلك قوة البأس وتسيطر علي مشاعر الأمومة وتدفع أبناءها إلي أتون معركة تعلم تماماً أنهم قد يفقدون حياتهم خلال الاشتباكات مع الخصوم. مشاعر الوطنية والحماس تتردد في صدر الخنساء وتعبر الكلمات عن الصدق والحب للجهاد لنصرة الله ودينه ورد الاعتداء عن النفس والوطن ودحر الخصوم بكل قوة. بعد أن استمع الأبناء لتلك الكلمات المؤثرة من هذه الأم الصابرة الشجاعة ذات الشهامة والقوة. أقدم الأبناء علي خوض المعارك مع جموع جيش المسلمين. وكان الثبات والعزيمة والإخلاص من أهم الصفات التي يتحلي بها هؤلاء المقاتلون. وشاءت الأقدار أن يستشهدوا جميعاً في هذه المعارك. وعندما وصل الخبر لهذه الأم الشجاعة استقبلته ببسالة وصبر ودون جزع وأخذت تردد: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم. وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته". حقيقة سبحان مغير الأحوال فقد غير الإسلام طبيعة هذه السيدة وتبدلت أحوالها بعد الإسلام. تلك هي حقيقة أهل الإيمان الذين أخلصوا دينهم وعملهم لله. وصاروا الدعامة والصروح التي تحطمت عليها حملات أعداء الإسلام وصاروا قوة يخشي بأسهم القاصي والداني. هذا الموقف المشرف للخنساء جعل أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرض لها من بيت المال مائتي درهم لكل واحد من أبنائها الأربعة تقديراً ووفاء لهذه السيدة الجليلة. ويكفي الخنساء فخراً تلك الوقفة الصامدة بعد استشهاد هؤلاء الأبناء بالإضافة إلي تكريم أمير المؤمنين. انها بحق نموذج لكل الأمهات علي مدي تعاقب الأجيال. ستظل مثار فخر بنات حواء. وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون.