السير علي السجادة الحمراء في أحد أشهر المهرجانات العالمية يعتبره أهل السينما امتيازاً كبيراً يتفاخرون به. حتي ان بعض شركات الانتاج مستعدة أن تشتري هذا "الامتياز" بهدف أغراض الدعاية والمباهاة.. فلغة المال تشتري السجاجيد الحمراء وغير الحمراء. وأحياناً اعتبارات السياسة! ولكن مراسم السير علي السجادة الحمراء في مهرجان مثل "كان" لا تكتمل بصعود السلالم. وإنما تسبق هذا موكب السيارات الفارهة والاستقبال الخاص عند نهاية السجادة من قبل المسئولين عن المهرجان. وهذا الامتياز الكبير لا يحظي به كاملاً وعلي المستوي الرسمي غير النجوم العالميين الكبار وصناع الفيلم من المشاهير .. والحمد لله أن القائمة الفرنسية تضم يوسف شاهين وإن كان لم يخلفه مصري آخر يحظي بنفس المكانة ولم تتحقق له نفس الشهرة. هناك علي أي حال "طبقية" في مراسم الاستقبال وفي تفاصيل الضيافة وأشكال التكريم في اطار هذه الاحتفالية السينمائية الكبري. "تحية مصر" وثورة "25 يناير" تضمنت عروضا لفيلمين هما "18 يوم" و"صرخة نملة" وقد جاءت ضمن فعاليات المهرجان الثانوية.. لقد سار أبطال الفيلمين علي السجادة الحمراء.. دون موكب ودون استقبال من المسئولين الكبار عند نهاية السلالم. وسار إلي جانب النجوم والمخرجين المصريين السيدة ماجدة واصف باعتبارها المنسقة التي عُهد إليها ترتيب الاحتفالية . و"ماجدة" فرنسية من أصل مصري. أو مصرية بجواز فرنسي. ولكنها في الحالتين مخلصة جداً لفكرة "المراسم" ومستوي "التمثيل" وحريصة علي "النظام" كما تراه بعيون فرنسية. أتخيل لو اجتمع هؤلاء النجوم المصريون من مستوي يسرا ومني زكي وأحمد حلمي وعمرو عبدالجليل وحتي رانيا يوسف وأروي في مهرجان عربي إذن لتعذر الوصول إليهم من جماهير الناس. ولاختلفت جذريا مراسم الاستقبال والترحيب وانطلقت سيارات الاستقبال والحفاوة. إن هؤلاء النجوم ومثلهم من نجوم المخرجين مثل يسري نصرالله وكاملة أبوذكري وسامح عبدالعزيز ومحمد علي.. وباقي طاقم الفيلمين المصريين كانوا في "كان" ومعهم الممثل محمود عبدالعزيز الذي جاء مثل شخصيات كثيرة مصرية لحضور المناسبة من أجل مصر. وليس من أجل المهرجان الدولي. عموماً المصريون قادرون علي خلق "حالة" من المرح والحضور والدفء الإنساني تجلت أثناء العرض المصري لفيلم "18 يوم" رغم عدم تمكن كثيرين من الذين تحمسوا للحضور واصطفوا في الطوابير أملاً في الفرجة علي الفيلم. ثم ظهر أن عدم تمكنهم من الدخول كان بحجة امتلاء القاعة وان مسألة تتعلق بسوء التقدير أو التنظيم. لأن القاعة كانت مليئة بالمقاعد الخالية. وهذه "الحالة" المصرية الخاصة بدت في "أروق" وأجمل تجلياتها أثناء الاحتفال بالثورة مع فرقة "وسط البلد" التي غني أعضاؤها حتي إلي ما بعد منتصف الليل علي عكس الشروط المتبعة التي تقضي بانتهاء الحفل في ساعة محددة. ولكن حالة الحماس جعلت المدعوين يملأون الصالة والشرفة المطلة علي البحر المتوسط وفي ليلة اكتمل فيها القمر وأطل بسحره وسط تكوين طبيعي بديع وكأن "الكون" جعله "مندوباً" للمشاركة في هذه الاحتفالية. فيلم "18 يوم" ليس واحداً وإنما عشر تجارب قصيرة روائية.. وكما أشرت بدأ بفكرة طرحها مروان حامد وانتهي بمشاركة كبيرة لمخرجين وكتاب وسيناريو وممثلين. في أول تجربة جماعية من نوعها. تذكرنا مع الاختلاف بالفيلم العالمي الذي تم انتاجه وشارك فيه مخرجون من العالم حول حادث "سبتمبر 2001" الذي هز العالم. فالتجارب الجماعية حول موضوع واحد نادرة لأنها ترتبط بأحداث كبري.. وفيلم "18 يوم" انعكاس لثورة 25 يناير .. وإذا كان يوسف شاهين قد شارك في الفيلم الأول فإن يسري نصري أحد الذين كانوا وراء الفيلم الثاني. حين طرحت الفكرة كانت الثورة في بدايتها. ولم يكن المشاركون فيها علي يقين من نجاحها. فالرئيس السابق كان لا يزال في الحكم. ولو فشلت فسيكون الهلاك مصير الذين شاركوا في هذه "الاحتجاجات" كما كان يسميها المسئولون حينئذ. نستطيع القول ان الفيلم أو مجموعة التجارب المكوّنة له تمثل ردود فعل سريعة وأولية وحذرة نوعاً ما إزاء هذه الانتفاضات الشعبية الهادرة التي عمت المدن المصرية. وقد تنوعت مستوياتها الفنية. مثلما اختلفت شحنات الخواطر والأفكار التي ولدتها. وأيضا مستويات الصدق الفني في عناصر التشخيص والحالات الإنسانية التي عالجها المخرجون وكتاب السيناريو.. ومن الادعاء ان اعتبر ان هذه السطور السريعة التي اكتبها في "مقهي" في مدينة كان. نقدا أو تحليلاً للأفلام العشرة. وإنما انطباع ولدته مشاهدة واحدة إبان احتفالية يغلب عليها الحماس. خِلقة ربنا من وجهة النظرالشخصية أعجبني جداً فيلم المخرجة كاملة أبوذكري عن سيناريو لبلال فضل الذي يتناول شخصية فتاة صغيرة تصنع الشاي لزبائن الرصيف مقابل قروش قليلة. فتاة تجتهد من أجل توفير لقمة العيش وتجاهد في نفس الوقت من أجل أن تبدو أجمل علها تحصل علي عريس. فتصبغ شعرها باللون الأصفر رغم اعتراض أمها. هذه الشخصية البسيطة التي لم تدخل مدرسة ولا تعرف في السياسة وليس لديها هم آخر سوي لقمة العيش والزواج. تتحول دراماتيكيا عندما تشهد بأم عينيها مظاهرات التحرير وتعي بحدسها التلقائي دوافع هذه الحشود المجتمعة في الميدان. فتقفز السور الحاجز وتندمج وسط الجموع.. أداء ناهد مدحت السباعي تلقائيا وصادقا ويجسد نموذجا حقيقيا للفتاة المطحونة. أيضا شخصية الأم سلوي محمد علي ولذا جاء الفيلم مثل قطعة حية في كيان بشري أكبر. أعجبني أيضا فيلم المخرجة مريم أبوعوف حول شخصية الفتوة الغافل الذي يتم استئجاره مقابل خمسين جنيهاً ليشارك في التصدي للثوار وزوجته التي ظلت تعيش لقناعات مزيفة حول "الرئيس" .. وبعد معركة الجمل تكتشف أن نقود زوجها غارقة في دماء الشهداء الأبرياء. هند صبري في الفيلم بدت أيضا مثل تفصيله متسقة مع المشهد العام الأكثر تحولا. وكذلك آسر ياسين الذي يتشابه مع آلاف يتم استئجارهم للبطش وقتل المتظاهرين. تتكرر في الأفلام العشرة فكرة "عودة الوعي" بتنويعات مختلفة. وكذلك بعض الشخصيات التي سكنت الوجدان الجمعي كأشرار مثل ضابط أمن الدولة الذي تكرر في عدد من هذه التجارب التي ضمها الفيلم. وأكثرها قربا من الصورة الشائعة تلك التي جسدها الممثل إياد نصار في فيلم المخرج مروان حامد. نلاحظ أيضا أن الأفلام الأكثرقرباً من المتفرج ليست بالضرورة لأكبر المخرجين أو أفضلهم.. هناك تجارب لشباب يبدأون -ربما- مشوارهم الفني مثل أحمد علاء. ونلاحظ أن معظم الشخصيات التي ظهرت في هذه التجارب مستوحاة من تجارب الأيام ال"18" التي استمرت فيها المظاهرات. احدي هذه التجارب مستمدة من الواقع الافتراضي الذي يغرق فيه نسبة كبيرة من الشباب وأعني الانترنت والفيس بوك. مثلما نري في فيلم المخرج أحمد عبدالله "النافذة" ولعب دور البطولة فيه الممثل أحمد الفيشاوي مجسدا شخصية غارقة وسط هذا "الواقع" المغلق داخل جدران حجرته. وحتي يكتشف عبر النافذة واقعاً آخر حقيقيا وليس افتراضيا. في الأفلام العشرة تتداخل ردود الأفعال والأساليب ويمتزج الإحساس الكوميدي بالعبثي بالانفعالات الدرامية مع النزعة الواقعية مع الخيال الشعبي. في فيلم "أشرف سبرتو" للمخرج أحمد علاء تتابع تجربة حلاق رجالي ورث المهنة عن أبيه. يجد نفسه فجأة متورطا في الحدث الكبير ومنخرطا فيه بكل مشاعره. حين يتحول دكانه الصغير إلي ما يشبه المستشفي الميداني للجرحي من المتظاهرين. ويتحول هو نفسه إلي "جراح" يضطر إلي خياطة الجروح. أيضا فيلم المخرج محمد علي الذي اختار نموذج الانتهازي الصغير الذي وجد في بيع "الاعلام المصرية" في الميدان مناسبة للتربح. اختار المخرجون نماذجهم من شرائح اجتماعية متباينة. علي سبيل المثال اختار يسري نصرالله نماذجه من الطبقة المتوسطة الميسورة. اللامبالية في الأغلب بما يدور حولها حتي تبدأ في التأثر بما جري في معركة "الجمل" التي كسرت مشاعر اللامبالاة وشدت الجميع بشكل أو آخر إلي الاندماج في الأحداث الدراماتيكية التي تؤثر في كيان المجتمع ككل. وتتميز بعض الأفلام عموماً باختبارات طريفة لصناعها مثل الشخصية التي عالجها خالد مرعي ولعب بعدها "أحمد حلمي" مشخصا بعض ملامح الشخصيات التي لعبها في أفلام سابقة. شخصية أحمد حلمي في الفيلم تعاني من مرض السكر وقد تعرض لغيبوبة فلما عاد إليه الوعي لم يتبين ما جري حوله ولم يجد ما يأكله داخل المحل سوي "كحك بسكر" أو بقايا منه. إنها حالة من الغفلة المرضية الرمزية ثم الاستيقاظ القصري علي تحولات كبيرة. إنها حالة عقلية أوفكرة تكاد تكون عامة في كل الأفلام علي نحو مباشر أو ضمني. صرخة النملة علي الشاطئ يمكن للمتفرج المصري أن يصاب بالدهشة عندما يشاهد هذا الفيلم "صرخة نملة" والعنوان "رمزي" بالمناسبة. والفيلم من تأليف طارق عبدالجليل وإخراج سامح عبدالعزيز. أقول سوف يصاب بالدهشة لو عرف أن الفيلم تم إخراجه قبل ثورة 25 يناير وأن صُناعه أضافوا -ربما- دقائق قليلة بعد قيام الثورة حت يصبح معبراً تماماً عن الظروف التي فجرتها.. ولذا جري اختياره ضمن البرنامج الخاص بتكريم مصر في مهرجان "كان" السينمائي الرابع والستين. عرض الفيلم يوم الخميس الماضي علي شاطئ الكروازيت وفي الهواء الطلق في "سينما الشاطئ" المكشوفة. عند الدخول يتسلم كل متفرج "بطانية" بيضاء جميلة حتي تقيه من البرد "!!" وعليه أن يسلمها بعد انتهاء الفيلم.. إنها طريقة جديدة للدعاية. وإن كنا تصورنا انها "هدية". يشارك في بطولة الفيلم عمرو عبدالجليل ورانيا يوسف والفيلم نفسه انتاج كامل أبوعلي.. وهو عمل تجاري ميلودرامي مثل أغلب الأفلام التي عالجت موضوع العشوائيات. ويتناول نفس الشريحة الاجتماعية المطحونة. ويستعرض أشكال الحياة المتدنية التي تحياها. جُودة تتمحور الأحداث حول شخصية "جودة" الذي يسافر إلي العراق ويعيش هناك عشر سنوات سجينا وذليلا ثم يعود لكي يواجه في وطنه حياة أكثر ذلاً وتعذيباً. يعتمد السيناريست والمخرج علي نفس التوليفة الناجحة تجاريا والتي تمزج السياسة بالواقع المجتمعي وتكتسب نفس الخشونة والسوقية. وأكثر ما يثير التعاطف مع الفيلم الجرأة الشديدة والمباشرة في فضح مظاهر الفساد والخراب النفسي والأخلاقي. وهي الدوافع التي حركت ثورة 25 يناير. وبنفس الجرأة يرسم صورة "ضابط أمن الدولة" الذي تكررت بتنويعات مختلفة ولكن دون تزييف أو مبالغة في معظم الأعمال. ولولا حدوث ثورة 25 يناير لما تمكن الفيلم من الافلات من الرقابة والسؤال: كيف كان سيعرض هذا الفيلم؟؟ وفي المؤتمر الصحفي الذي عقد في مدينة "كان" حول الفيلم الذي لم يكن قد عُرض بعد. وهذا أيضا خطأ في التنظيم.. فكيف يناقش الناس فيلما لم يشاهدوه؟ في هذا المؤتمر الذي لم يحضره سوي عدد قليل. قال المؤلف طارق عبدالجليل إن أمن الدولة قدم 21 ملحوظة حول الفيلم. مما يعني أنه كان سيتعرض لتشويه كبير. وعندما سئل المنتج عن مستقبل السينما بعد الثورة.. قال إنه يتخوف من المستقبل ومن دور "السلفيين" في افساد مناخ الحرية.. الجميع يتخوف من أسراب طيور الظلام التي أتصور انها الخلف الطالح لأمن الدولة أي أفسد خلف لأفسد سلف.