* جاءني صوته عبر الهاتف وبدون مقدمات راح يقول: ربما لا تتذكريني فأنا واحد من بين مئات مئات القراء الذين كان لجريدتكم الغراء الفضل بعد الله عز وجل في حسم مشكلاتهم.. فحينما ضاقت بي وأسرتي مع السكن غير الآدمي وتعثرت كل خطواتي في الحصول علي الشقة المناسبة.. وجدتكم بجانبي تزفون إلي البشري بموافقة المحافظ علي تخصيص شقة باسمي بمنطقة المقطم.. في ذاك اليوم من عشرين عاماً وزيادة لم تسعني الدنيا من الفرحة أنا وزوجتي وأولادنا الثلاثة لنعرف معني الاستقرار الحقيقي والحياة التي تليق. أما اليوم فوجدتني أمسك بالهاتف وأتصل بأرقام الجريدة التي أحفظها وأنا "مغمض" مثلما أحتفظ بمئات الأرقام الهاتفية دون أن تخونني الذاكرة وهي الموهبة التي ما كان لي اكتسابها إلا بعد أن قدر الله لي أن أفقد البصر"!!" وهي المحنة والنعمة معاً التي غيرت مسار حياتي مبكراً جداً.. والتي تربطها علاقة وثيقة بالحلم الثاني الذي يشغلني الآن وأتمني أن تكون نافذتك سببا في تحقيقه لي عن قريب بإذن الله. لكن قبل "الحلم" إسمحي لي أن أعود مع قرائك الي اليوم الذي ذهب فيه نور عيني واستقبلته رغم حداثة سني آنذاك بكل الرضا والقبول لعلي من هذه القصة أشدُ علي يد كل من خصه الله بهذا الابتلاء مثلي بأنه عسي أن تكرهوا شيئا وفيه خير كثير لكم.. في الثانية عشرة من عمري خرجت للعمل بأحد المطاعم لأشارك أبي مسئولية البيت وأمي واخوتي.. لكني لاحظت أثناء وجودي بالمطعم أن أحد العمال يمدُ يده علي مال صاحب المكان.. فحاولت تذكيره بالمثل الذي كم سمعته من أمي الطيبة رحمها الله "من أمْنك لاتخونه" لكنه تمادي في فعله المشين ما دفعني لمصارحة صاحب المال.. فاكتفي بإنذاره أما زميلي فتربص بي وقذف بمصفاة نحاسية بكل قوة نحو وجهي لترتطم به.. وتفقدني الإبصار في الحال!! إبتلاء استقبلته بكل رضا وشكر.. وعلمت أن الله يحمل لي معه كل الخير وكيف لا وأنا حافظت علي مال صاحب المطعم ورفضت أن ألعب دور الشيطان الأخرس الذي يري الجريمة أمامه ولايحرك ساكناً؟! نعم كان علي الرضا بقضاء الله وقد اختصني بهذا الابتلاء ليضاعف لي من الحسنات أو ليبعدني به عن السيئات وفي الحقيقة منذ أن فقدت الابصار وأنا اكتشف في نفسي مهارات جديدة فذاكرتي صارت حديدية تجعلني أحفظ أرقام الهواتف والأسماء الرباعية وغيرها دون عناء.. منذ تلك المحنة والنعمة وأنا تتملكني طاقة عجيبة في الدفاع عن حقوقي فبعد أن التحقت بمراكز التأهيل المهني للتدريب علي مهنة تتناسب وظروف إعاقتي تم ترشيحي لوظيفة بشركة اسكو وكادت تطير مني فلم استسلم وسعيت بكل ما أوتيت من قوة للحفاظ عليها فقمت بتصعيد الأمر لكبار المسئولين وحين تزوجت وصرت أبا لثلاثة أبناء علمتهم كيف يكون الرضا بما يقسمه الله لنا؟ وكنت كلما رأيت اليأس يستبد بهم لعدم حصولهم علي الوظائف التي يتمنونها معظمهم من حملة الدبلومات أذكرهم بقصتي.. لذا كم أتمني وبعد أن تجاوزت الستين وصرت بالمعاش أن أحقق حلمي الثاني في إقامة مشروع يعود بالنفع علي أولادي وعلي شقيقتهم الصغري التي رزقني الله بها منذ عام ونصف!!! أحلم بمشروع مكتبة مدرسية يضمن لي ولهم الاستقرار من خلال تمليلكي أحد المحلات الكائنة بالمقطم مقابل أقساط شهرية مريحة.. هذا أقصي ما أتمناه فهل يصل صوتي عبر نافذتك لمن بيده الأمر؟ عبدالقادر عبدالتواب محمد المقطم * المحررة: عود أحمد يا عم "عبده".. فقد تذكرتنا بعد عشرين عاما "وزيادة" لتأتينا ومعك حلم جديد نتمني من الله أن يجعلنا سببا في تحقيقه لك مثلما أعاننا علي الشقة.. وفي الحقيقة قليلاً مانصادف في حياتنا من يتمتعون بمثل هذه الروح الايمانية العالية تلك التي بصرتها منذ الصغر فأدركت أن فقدك لنور عينيك ما هو إلا جائزة من السماء أرسلها الله لك في الوقت المناسب ليغير بها مسار حياتك كله.. فبدلا من أن تنشغل بالتفاصيل الكثيرة التي تشغل عادة المبصرين صرت أشد تركيزا وانتباها بما يدور حولك.. تمتلك ذاكرة حديدية حفظها الله لك تعينك علي حفظ الأرقام والاسماء وغيرها من البيانات الدقيقة!! لقد أدركت جيدا حديث المصطفي صلوات الله عليه وسلامه الذي يشير فيه إلي أنه "ما من شوكة يشاكها ابن آدم إلا وكانت غفرانا لذنب".. وقس علي ذلك ما أحصيته من حسنات وما تجنبته من سيئات وأنت المبتلي في نور عينيه وهو ما يغبطك عليه الكثيرون ممن يدركون ان ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. فهنيئا لك يا عم عبده.. يا من تغرس في أبنائك معاني الرضا والقبول وعلي أمل أن يكون لقائي بك قريبا بإذن الله.