من يتبع الصبر يتبعه النصر, ولذلك فإن جائزة صبرك علي هذا الابتلاء هي أنك سوف تتوصلين في النهاية بكل ما تصنعينه من كفاح الي النتيجة المرضية التي تكفل راحة بالك في الدنيا, ورضا الله عنك في الآخرة. أنا فتاة في الخامسة والعشرين من عمري, تربيت في أسرة محافظة لأب كريم رأيته بارا بوالدته وإخوته منذ أن وعيت علي الدنيا, فهو الابن الأكبر لوالده الذي رحل عن الحياة وهو مازال طالبا, ونحت في الصخر كما يقولون لكي يساعد أسرته وإخوته وأسهم في تزويجهم جميعا, وظل عطاؤه بلا حدود حتي بعد أن توفيت جدتي وتزوج كل أعمامي وعماتي وصارت لي عائلة كبيرة من أولاد وبنات العم, وأحببتهم وأحبوني وساندته أمي علي هذا العمل الرائع, وهي لا تقل عنه بطولة, حيث رحلت أمها عن الحياة وهي في الجامعة فتولت تربية أخوتها الصغار في ظروف قاسية, وفي ظل هذه الظروف المتشابهة جمع الله أبي وأمي في عش الزوجية ورزقهما من حيث لا يحتسبان ووهبهما ثلاثة أبناء أنا أكبرهم ولي أخ وأخت وتخرجت منذ سنة في كلية الطب بعد دراسة مرهقة انشغلت خلالها بالمذاكرة ولا شيء غيرها, حيث تقدم لي العديد من زملائي في الجامعة فلم أنجذب لأي منهم ولا أنكر أنهم شخصيات محترمة.. ومرت شهور بعد التخرج, وإذا بزميل لي كان معي في المدرسة يطلب مني الزواج, وتعجبت لأمره واسترجعت شريط حياتي, فلم أتذكر أنني التقيت به وحدثت نفسي وسألتها: لماذا لم يفاتحني أو يفضي إلي بمشاعره من قبل, وما سر تقدمه لطلب يدي بعد كل هذه السنوات؟. فطلبت منه أن نعطي نفسينا فسحة من الوقت للتفاهم والوصول إلي قرار فأومأ بالموافقة وعندما رجعت إلي المنزل سردت لوالدتي كل ما دار بيننا فلم تمانع في لقائي به, واشترطت أن تكون المقابلة سريعة وداخل أسوار الكلية ولا نجلس في الكافتيريا, فنفذت ما أشارت علي به فقابلته في فناء الكلية وظللت أتحدث معه ثلاث ساعات متواصلة ونحن واقفان ولا أدري كيف مر هذا الوقت الطويل. وسبحان الله الذي يؤلف بين القلوب فلقد كان ضياء الذي ظهر في حياتي بعد كل هذه السنوات هو ذلك الشخص الذي درس معي في المدرسة, حيث كان طفلا هادئا جدا في المدرسة شديد البياض, وشعره أحمر يميل إلي الإصفرار ويملأ وجهه النمش ولم يكن ممن كنت أتكلم معهم في الفصل, وعندما تحدث معي في ذلك اليوم بالكلية وقال لي إنه يحبني منذ أن كنا في الصف الرابع الابتدائي ضحكت كثيرا, وظننت أنه يريد المزاح, ولكنه فاجأني بأنه يتذكر أشياء من طفولتي تؤكد أنه كان يتابعني, ولم تفارق خياله ومنها طريقتي العجيبة في الإمساك بالقلم.. ويتذكر أيضا أين كنت أجلس في الفصل طوال تلك المرحلة الدراسية وغير ذلك من التصرفات التي نسيتها تماما, فإذا به يسجلها في ذاكرته, وهنا تأكدت أنه أحبني ولم يتأثر حبه ببعدنا والتحاقي بكلية غير التي يدرس بها, ووجدتني أبادله الإحساس نفسه, وتقابلت عائلتانا في لقاء جميل هاديء انتهي بقراءة الفاتحة,. وتمت خطبتنا في احتفال كبير شاركنا فيه كل أقاربنا وأصدقائنا.. وفي تلك الليلة تزينت إصبعي بدبلة محفور عليها اسم ضياء وعاهدت الله ألا أخلعها أبدا. وزاد حبي له مع الأيام.. وكيف لا أحبه؟ وهو نعم الرجل, الذي لم أقابل شابا مثله, ويكفيه أنه لازمنا في الظروف الصعبة التي تعرضنا لها ومنها مرض والدتي التي خضعت لعملية قلب مفتوح, وكنت أزورها يوميا في المستشفي لأجده عندها قبلي, وكان يحضر لها الطعام الذي تحبه ويلح عليها حتي تأكله فيرتاح وترتسم علي وجهه علامات الرضا. ومرت سنتان وعقدنا القران, وصرت زوجته أمام الله والناس, وحددنا ميعاد الزفاف وبدأنا التحضير لهذا اليوم الذي انتظرناه كثيرا. وكلما زاد حبه في قلبي زاد خوفي عليه فهو فرحتي في الدنيا ومركز الكون الذي أعيشه, ولا أدري ما الذي جعلني أشعر أن شيئا ما سيحدث له. وزاد هذا الإحساس حتي تحول إلي يقين في يوم سافر فيه مع أصدقائه إلي الساحل. وفوجئت بشقيقه يتصل بي بعد ساعات علي الهاتف ويبلغني وهو يجهش بالبكاء بأن ضياء اصطدمت رأسه في حمام السباحة, وأصيب بكسر في فقرات الرقبة, وأن حالته تستدعي سرير رعاية مركزة ولا يوجد مكان له. سمعت هذا الخبر الصاعقة فسقطت علي الأرض وعندما أفقت عرفت أن الحادث أثر علي النخاع الشوكي وأن حبيبي أصيب بشلل رباعي.. يا الله.. إنها كلمة ثقيلة علي لساني وابتلاء عظيم لم أتوقعه, فهرولت إلي الاسكندرية حيث يوجد المستشفي الذي يعالج به, وعندما دخلت إلي الرعاية المركزة فوجئت بأن الممرضات يعرفن اسمي, ويقولن أن ضياء يردد اسمي كثيرا فانخرطت في بكاء مرير وأنا أنظر إليه وهو نائم وأشعر به فلقد كان موعد زفافنا بعد شهرين فقط وعندما استيقظ وتنبه لي شددت علي يديه وقلت له إنه بخير وسوف يتعافي قريبا, فقال: الحمد لله. لقد أجريت له عمليتان حتي الآن لتثبيت الفقرات. وبدأ العلاج الطبيعي, ولكن دون تحسن في الحركة وأملنا في ربنا ليس له حدود... إنني أطلب منك ومن قرائك الأعزاء الدعاء له بالشفاء التام.. وأن يجمعني الله به في بيت واحد ويرزقني منه ذرية صالحة وأن يعوضنا عن صبرنا خيرا. وإني أشهدك أني لم ولن أحب غيره وأنني وأهلي لن نرضي بزوج غيره لي مهما حدث ولا يهمنا ماسيقوله لنا الناس من كلام مؤذ لمشاعرنا ويظنون أنهم لنا ناصحون.. وأقول لحبيبي إني معك ولك دائما. فاصبر علي ما أصابك إن الله مع الصابرين ولن يخذلنا أبدا وأنا علي يقين من أن فرجه قريب. {{.. وأقول لكاتبة هذه الرسالة: لقد عرفت مفتاح سعادتك ببقائك الي جانب خطيبك أو زوجك, الذي لم تدخلي به بعد, وعرفت أيضا أن من يتبع الصبر يتبعه النصر, ولذلك فإن جائزة صبرك علي هذا الابتلاء هي أنك سوف تتوصلين في النهاية بكل ما تصنعينه من كفاح الي النتيجة المرضية التي تكفل راحة بالك في الدنيا, ورضا الله عنك في الآخرة. وأظنك لست في حاجة الي التذكير بأن الفرج يأتي بعد انقطاع الأمل وأجدني أردد مع ابن حزم قوله: ستعبر بعد اليسر للعسر طاعة لعل جميل الصبر يعقبنا يسرا لقد كشف الحادث الأليم الذي تعرض له فتاك معدنك الأصيل, وروحك الوثابة التي تسمو فوق الأشواك والآلام, وتتطلع الي الآمال والأحلام, ولن يخذلك الله أبدا, مصداقا لقوله تعالي سيجعل الله بعد العسر يسرا وفي ذلك أنشد أبوالعتاهية: هي الأيام والصبر وأمر الله ينتظر أتيأس أن تري فرجا فأين الله والقدر؟ فلا يأس مع الحياة, وعليك بالأخذ بالأسباب وترك الأمر لله الذي سيعينه علي ما هو فيه, ويكفيه صفاء نفسه ونقاء سريرته, ويكفيك اخلاصك له, وتقديرك لحبه, وارتباطه الصامت بك منذ نعومة أظافركما.. وألمح في كلماتك عن استقرار حالته شعاعا من النور والأمل, علي قرب تحسن حالته بما يسمح لكما بالزواج ومواصلة السعي والكفاح.. أسأل الله العلي القدير له الشفاء ولك الثبات, ولكما معا التوفيق والسداد والاستقرار الي الأبد.