احتفلت مصر بعيد ميلاد فنانها الرائع محمد عبدالوهاب في 13 مارس.. وجعلت من ذلك اليوم عيدًا للفن.. وكتب وتحدث كثيرون بهذه المناسبة عن المكانة العالية التي بلغتها عبقرية عبدالوهاب الموسيقية.. لكنهم لم يتعرضوا لعلاقة عبدالوهاب بالكلمة.. التي كان يعتبرها الباعث والمحرك والملهم الأول للجملة الموسيقية بما تحمله من معني ومن إيقاع. صديقي وجاري العزيز المؤرخ الموسيقي المهندس عبدالرحمن نصار مغرم جدا بعبدالوهاب.. يعرف عنه ويدافع عن موهبته وموسيقاه أكثر مما يدافع عبدالوهاب عن نفسه.. بينما أميل أنا إلي سيدة الغناء العربي أم كلثوم ويطربني فنها أكثر.. وبيننا في ذلك سجالات طويلة.. لكن الميل لأم كلثوم لا يمكن أن ينتقص عندي من قدر ومقام وعبقرية عبدالوهاب. ولقد كان عبدالوهاب أنيقا في كل شيء.. وحريصا في كل شيء.. ومثلما كان يجتهد في اختيار جملته الموسيقية ويتعهدها بالتدقيق والتمحيص كان يجتهد أيضا في اختيار الكلمة التي يغنيها.. والتي ستخرج من بين شفتيه إلي الجمهور. كانت أم كلثوم "حالة" تفرض شخصيتها الفنية علي المؤلف والملحن.. وكان عبدالوهاب أيضا "حالة" عندما يختار الكلمة الحلوة.. الراقية.. المثقفة.. الواعية.. المبدعة.. التي تكشف عن موهبة حقيقية عند صاحبها.. لكي تجعلك في النهاية تقول "الله" كلما سمعتها. طبعًا.. لم يكن عبدالوهاب يؤلف الأغاني والقصائد.. لكنه كان يوفر المناخ والبيئة لظهور الكلمة الراقية المعبرة الجميلة.. يلتف حوله الشعراء والمؤلفون.. ويتسابقون إليه.. ويقدمون "الموديلات" التي تناسب ذوقه.. فيختار من بينها بدقة وأناقة شديدة.. كأنه ينتقي الكلمات بالشوكة والسكينة. وقد ساعدته المرحلة التي قضاها في بداية حياته الفنية في بيت أمير الشعراء أحمد شوقي علي ترقية ذائقته للكلمة وإدراكه للمعاني والدلالات التي تحملها.. واكتسب ثقافة واسعة جعلته قادرا علي تجسيد الأصالة والمعاصرة والجمع بين القديم والجديد.. ليس في اللحن فقط وإنما في الكلمة أيضًا. لذلك فإننا عندما نعبر عن افتقادنا لإبداع عبدالوهاب الموسيقي اليومي نعبر أيضًا وبنفس الدرجة عن افتقادنا للكلمة التي يمثلها فن عبدالوهاب.. الكلمة الرقيقة الدقيقة الراقية.. مع أن الشعراء موجودون ومازالوا ينشدون ويبدعون.. ولكن أين عبدالوهاب الذي يغني الشعر الجميل والأغنية الرفيعة.. فيغنيها الناس وراءه.. فتسمو مشاعرهم ويرتقي ذوقهم ويعتدل لسانهم. للأسف الشديد ما تسمعه الأذن اليوم كثير منه يفتقد لمسة الجمال التي ترفعه إلي مرتبة الفن.. الكلام مبتذل رخيص سمج.. والموضوعات مكررة سطحية.. إذا كانت الأغنية عاطفية فليس فيها أكثر من أحبك يا حبيبي. يقولها المطرب أو المطربة ألف مرة.. وإذا كانت الأغنية وطنية فليس فيها أكثر من أحبك يا مصر يقولها المطرب أو المطربة ألف مرة.. ولا تخرج الموسيقي عن هذا الإطار القائم علي التكرار الممل. إنها الفن النمطي سابق التجهيز الذي يخاطب الغرائز والمشاعر الهابطة.. ويشد الناس إلي أحط المدارك المتدنية ولا يعبر عن أي إبداع. عبدالوهاب كان لمسة جمال حقيقية في حياتنا.. سواء في الموسيقي أو الكلمة التي نغنيها.. لذلك عاشت موسيقاه وعاشت كلماته أنيقة طازجة مهما تقادم عليها الزمن.