أنا إحدي قارئات نافذتك أبعث إليك برسالتي التي لم أتخيل في يوم من الأيام أني سأخُطها بيدي لاستدعي شريط حياتي كله الذي كل مقطع فيه يمثل زلزالا..!! إنني سيدة في الخمسين من عمري نشأت في إحدي قري الصعيد التي يسود فيها زواج البنات في سن صغيرة جداً وكان نصيبي منه الزواج برجل يكبرني بعشرين عاما!! يعمل بالقاهرة في الصباح موظفاً بإحدي الوزارات وفي المساء يدير محل الخضراوات الذي يمتلكه بأحد الأسواق الشعبية. لم يكن لي الاعتراض لأتحمل قبل الأوان مسئوليات لا طاقة لطفلة في مثل سني آنذاك أن تتحملها ليس فقط لأن الزواج أثمر عن أربعة أبناء كانوا بحاجة لمن ينصحني في كيفية تربيتهم ورعايتهم وإنما لم يهنأوا بالعيش في كنف أبيهم فبعد وقت قصير توفي وهم لايزالون أطفالا.. وبرحيله وجدتني مدفوعة للنزول لإدارة المحل الذي كان يمنعني في حياته من الوقوف فيه ولم يكن أمامي سبيلا آخر لكي أقطعه خاصة أن المعاش الذي تقرر لنا عنه كان هزيلا للغاية.. لا يسمح بتلبية وصيته لي حين أوصاني بمواصلة تعليمهم حتي الجامعة. خطوة عرضتني لعاصفة مضايقات ماكنت أحسب لها حسابا سواء من أهل زوجي أو من تجار السوق حتي بات استمراري في السعي علي لقمة العيش مهدداً وهذا لا يعني فقط ضياع مستقبل أولادي بل تجويعهم لذا أخذت في التقرب من أحد التجار المشهود له بالشهامة ليوفر لي الحماية المطلوبة من باقي تجار السوق لكنه رأي في حل مشكلتي بأن يتزوج مني عرفياً خاصة أن علي ذمته امرأتين أُخريين ولا يريد تفاقم المشكلات بيني وبينهما حتي لا يؤثر ذلك علي أولادي. قبلت العرض وظل لقائي به في السر مقابل تحقيق الحماية لي من التجار والبائعين ومع ذلك لم أسلم من ألسنة الناس إلا أن ذلك لم يوهن من عزيمتي وتحملته في صمت لكن بعدما كبر أولادي بدأت تصل إلي مسامعهم بعض هذه التعليقات الأمر الذي دفع بأصغرهم إلي أن يتتبعني فرآني ذات يوم وأنا أدخل في إحدي الشقق وأمكث بها بعض الوقت ولم يبرح مكانه إلا بعد ان غادرت وزوجي الشقة.. في ذاك اليوم فاجأنا صغيري بوقوفه عند الباب وبدأ يلقي لنا بنظرات كالسهام الحارقة ثم سرعان ما اندفع ليجري علي غير هدي! هنا قررت مصارحة أولادي بأمر زواجي العرفي وأسبابه لكنهم لم يتقبلوه جملة وتفصيلا وأصروا علي طلاقي منه ولم يكن أمامي سوي الاذعان لهم رغم معارضة زوجي ذلك بشدة في البداية وبعد إلحاح وضغط مني وافق علي الانفصال وان ظلت حمايته لي في صمت ابتغاء لمرضاة الله.. ولا تتعجبي لو قلت لك وهذا ما دفعني للكتابة إليك إنه رغم مرور سنوات طويلة علي تلك الواقعة مازال أصغر أبنائي يرفض النظر إليَّ والتعامل معي في أي أمر من أمور الحياة رغم أنني ما سعيت للزواج من هذا الرجل من أجل نفسي وإنما من أجله وأخوته فأفنيت حياتي عليهم حتي تخرجوا جميعا في كليات القمة مثلما كان يحلم لهم أبوهم رحمه الله. مازال إبني الصغير يتنكر لي لدرجة ان يوم زواجه أخفاه عني وعندما ذهبت إليه وأخوته لأعاتبه وأبارك له في نفس الوقت ثار في وجهي قائلا: لا يشرفني أن تكوني أمي.. وأنا الاستاذ الجامعي"!!" ولم أفعل سوي مافعلت حين تزوجتِ دون علمنا.. لكنني أنا في الحلال.. وأنت في الحرام!!.. عبارات تعمد إحراقي بها في حضور عروسه.. وأخوته ما أسلمني إلي حالة سيئة واكتئاب حاد لإصرار ولدي علي مقاطعتي والتنكر لي بهذا الشكل في الوقت الذي لا أستطيع الدعاء عليه لأنه "إبني".. لقد أصابني الخرس من هول ما اقترفه في حقي متناسيا أنني أمه فماذا تقولين لي وله سيدتي؟ الأم الصامتة - القاهرة * المحررة: أخطأ أهلك في حقك مرتين الأولي حين لم يرحموا سنك الصغيرة فعجلوا بدخولك في دنيا يحتاج الانتقال إليها التأهيل الوجداني قبل الجسماني وفي الثانية حين اختاروا لك عريساً من سن أبيك وهو الاختيار الذي لم تذكري المشكلات التي تربيت عليه من غياب التفاهم وهو ما لمحت اليه في إشارتك لرفضه التام بالنزول معه للسوق وكأنك تستشعرين ما تحمله إليك الأيام من ابتلاءات قاسية. ومثلما أخطأ أهلك في حقك أخطأت أنت أيضا في حق نفسك وأولادك حيث لم يوفر لك زواجك العرفي إلا مزيدا من الشقاء والحيرة وإن استشعرت منه تلك الحماية المنقوصة!.. زواج لم تحصدي منه سوي أن وضعت نفسك في موضع الشبهات وأنت منها بريئة. ولتعلق الطفل الصغير عادةً بأمه وارتباطه الشديد بها كانت الصدمة التي زلزلت كيان أصغر أبنائك فأصابته بجرح لم تشفع السنون في مداواته بخلاف اخوته الذين استطاعوا اجتياز هذه الأزمة بسلام خاصة بعد أن نزلت علي رغبتهم بإنهاء هذا الزواج في حين اشتط أصغرهم وراح يثأر منك محاولا خلط الأوراق مدعياً بأن زواجك كان حراماً مع ان الزواج العرفي زواج شرعي لكن ينقصه فقط الاشهار والعلن وإذا كان من كلمة لك فقد سعيت أيتها الأم الصامتة قدر استطاعتك لاستعادة ولدك لكنه أبيَ أن يطوي هذه الصفحة من حياته غير مبالي بدورك العظيم في تربية وتعليمه حتي صار أستاذاً جامعياً!!. .. وإن كان من كلمة له فهي حذاري من التمادي في عقوق أمك وقطع صلتك بها.. حذاري استغراقك في استدعاء الماضي الذي لن تحصد من ورائه سوي مزيد من العقوق الذي يُعجل الله بعقوبته في الدنيا قبل الآخرة.. فترفق بأمك وسارع بارضائها في حياتها قبل فوات الأوان فنحن في النهاية بشر وكل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون.. فسارع ولا تتردد.