يحفل تاريخ الرواية بالكثير من الأعمال الضخمة التي قد تملأ آلاف الصفحات هناك أعمال ديستويفسكي والحرب والسلام لتولستوي وخريف البطريرك لجارثيا ماركيث وثلاثية بين القصرين لنجيب محفوظ وغيرها لكن الروايات الجديدة تتسم في غالبيتها بالقصر. وقلة عدد الصفحات إلي حد تجاوز التعريف النقدي بعدد الصفحات الذي يفرق بين الرواية والقصة القصيرة وهو ما دفع الكثير من المبدعين إلي الاقتصار علي الرواية القصيرة كتعبير عن إيقاع العصر الذي تتسارع فيه الأحداث بما ينبغي أن ينعكس علي الإيقاع الروائي فيأخذ العمل مساحة لا تتجاوز عشرات الصفحات بعد أن كان معني الرواية هو آلاف الصفحات. هل الرواية القصيرة هي إبداع زماننا الحالي أو أن الرواية الطويلة لها مبدعوها وقراؤها؟ زمان والكلام للمبدعة زينب صادق كان يوجد وقت للمرء وكان لديه فراغ مبعثه استقرار الأوضاع في الحياة المصرية كنت مقبلة علي قراءة روايات مبدعي أمريكا اللاتينية وهو ما كان يفعله الكثيرون من محبي القراءة آنذاك ثم تبدلت الظروف نتيجة لتبدل الأحوال السياسية والمجتمعية ولم يعد الناس يمتلكون الصبر بحيث يعكفون علي قراءة الأعمال الكبيرة واكتفي البعض بقراءة عناوين الصحف وكما ألاحظ فقد حاولت شخصياً كتابة الرواية القصيرة مثل روايتي "لا تسرق الأحلام" ثم وجدت نفسي أميل إلي القصة القصيرة ثمة روايات تزدحم بالشخصيات فأتوه فيها والمثل أجده في الروايات الأمريكية التي لا أستطيع أن أصبر عليها. اللافت أنه منذ الثمانينيات والتسعينيات أصبح الإيقاع سريعاً والاختراعات كثيرة ونبض الحياة والكتابة بالتالي سريع كي لا يهرب المتلقي وكما قلت فأنا لا أكتب روايات طويلة أفضل كتابة القصص القصيرة جداً والحكايات روايتي "يوميات امرأة مطلقة" عبارة عن يوميات لكنها رواية طويلة قصيرة.. كنا في زمن أحباب رواية قصيرة شعرت أن الرواية الطويلة لا تناسب ذوقي الإبداعي الذي يميل إلي التركيز والاختصار هذا ما تحتاجه حياتنا الآن ولعلي أتفق مع الرأي بأن الرواية الطويلة القصيرة هي التي يمكن أن تنتشر أكثر لا توجد القدرة علي التركيز ونحن في عصر الإنترنت تغير إيقاع الحياة كان المرء يستطيع أداء أكثر من دور عمل في اليوم الواحد لكن الصبح يشرق الآن فيتلوه المغرب حتي السفر زمان كان جميلاً الآن حافل بالصعوبة. موهبة نادرة ويذهب الشاعر وكاتب القصة القصيرة والناقد عبدالقادر حميدة إلي أنه يفضل الرواية القصيرة متي توافرت فيها عناصر الإبداع ذلك أن زمن القارئ في العصر الحديث قد ازدحم بالكثير من الهموم والمشكلات فضلاً عن وسائط الإعلام البصرية والمسموعة بما لا يتيح للقارئ المتأني أن يجلس أمام رواية طويلة كأولاد حارتنا مثلاً. اللهم إلا أن كان القارئ واحداً من المبدعين في الوقت نفسه فهو مجبر علي المتابعة والتقدير والإعجاب إنني أتحدث عن الأجيال الجديدة القارئة التي يكتب لها الروائيون علماً بأن الرواية القصيرة الناضجة تحتاج إلي موهبة نادرة. في تقدير د.أحمد إبراهيم الفقيه أن هناك مساحة لا تخفي جاهزة دائماً للرواية الطويلة التي يقبل عليها القراء في الإجازات ويجدون فرصاً للاستغراق والمعايشة لشخوص الرواية لفترات طويلة وهناك إقبال عليها في الغرب ليس فقط في الروايات التجارية وإنما الروايات الأدبية وقائمة جوائز جوكر العالمية حافلة بالروايات الطويلة التي تصل صفحاتها إلي سبعمائة أو ثمانمائة صفحة كما أقول في الوقت نفسه إن هناك مساحة للرواية القصيرة التي يمكن أن يقرأها القارئ في جلسة واحدة ويستمتع بها وهي أيضاً روايات تجد الإقبال والرواج أضيف أيضاً أن هناك مساحة للقصة القصيرة التي يتابعها القراء في الصحف والدوريات فلكل لون أدبي نكهته ومجاله وله من القراء ما يجعله مستمراً وعائشاً دون أن يجور لون قصصي قصير أو طويل علي لون آخر. يدافع القاص أشرف خليل عن حق الروائي في إنجاز عمله في المساحة التي يحتاجها بصرف النظر عن عدد الصفحات لكل عمل عالمه الذي يصعب أن نحدد له مساحة محددة ولا حجماً بالذات قد تأتي الرواية في حجم ثلاثية نجيب محفوظ وقد لا تزيد عن المائة صفحة هذا حق المبدع في كل الأحوال أما القارئ فظني أن غالبية من يقرءون من المبدعين والقراء العاديين يعتبرون الرواية المثالية من حيث الحجم هي ما بين 120 إلي 150 صفحة لأن ذلك هو ما يأذن به الوقت لقراءة أي عمل وسط الانشغال بظروف الحياة وما تتضمنه من إيقاع سريع يعد فيه الخلو إلي القراءة في كتاب إلي جانب الإنترنت والتويتر والفيس بوك ترفاً لا يملكه الكثيرون. والملاحظ كما يقول الروائي جمعة محمد جمعة أن إيقاع الحياة لا يحتمل ساعتين كي يقرأ الإنسان وربما قراءة صفحة واحدة تكفي نحن أمام متغيرات تصعب معها العزلة عما حولنا كثيراً. الناس مثلاً مشغولون بالسياسة تجتذبهم الأحداث السياسية بتطوراتها المتلاحقة ولعل الفيس بوك هو الأشد تعبيراً عن هذه الفترة وكما أري فإن بعض المبدعين يعبرون عن أنفسهم بمقالات سياسية يكتبونها في صفحة أو صفحتين لكن الرواية والرواية الطويلة تحديداً تحتاج إلي الوقت والتركيز الشديد. الدراما يصف الروائي والقاص زكريا عبدالغني محاولة المزاوجة بين نوعين أدبيين بأنها ارتداد عن القصة القصيرة والرواية فالكتابة السردية يمكن أن تثمر قصة قصيرة أو رواية أما النوفيلا فهي جنس أدبي لا يقوم علي القصة القصيرة ولا يشتمل علي المحتوي الروائي وبعض الكتاب لديه قدرة علي التكثيف بما يتيح له كتابة قصة قصيرة ولا يمتلك في الوقت نفسه قدرة علي كتابة الرواية أي خلق شخصيات درامية تتصارع وتتفاعل كما عند الروائيين الكبار وهذا راجع إلي ظاهرة اجتماعية هي التراجع الذي نشهد قمته الآن وإن بدأ منذ حوالي ربع قرن هذا التراجع يظهر في كافة المجالات الإبداعية حتي في السينما والمسرح والغناء نحن نعيش نكسة إبداعية رغم الآراء التي تجد في بعض "النوفيلات" ما يستحق الإشادة وقلة صفحات الرواية لا يعني أن الكاتب لا يقدر علي صناعة الرواية الطويلة التي تعتمد علي البناء السردي المحكم وعلي البراعة في خلق الشخصيات واختيار الشريحة الاجتماعية التي تعيش في مكان واسع وزمان محدد أنا أجد أن الرواية القصيرة الحالية نوع أدبي مختلف تماماً عن الرواية بمعناها الحقيقي إنها ظاهرة تعبر عن تراجع فني اتساقاً ربما مع اللحظة الحضارية التي تعيشها حياتنا جميعاً.