لا أجد حرجاً في الاعتراف بأن ما أنجزته الثورة حتي الآن يتجاوز. أحلامنا.. ليس في مصر فحسب وإنما في الوطن العربي كله.. تستوي في ذلك الدول التي اشتعلت فيها الثورة والدول التي تنتظر. ما كان أحد يتصور أبداً أننا سنحصل علي حريتنا كاملة في وقت قصير كهذا.. وأن هرم الاستبداد الذي شيد وتمترس علي مدي 60 عاماً قد سقط في 18 يوماً.. وأن كل الأغلال ستنفك.. وتتبدل المواقع.. الأبرياء الذين قبعوا في السجون ظلما خرجوا إلي النور. والفاسدون الذين قبعوا علي كراسي السلطة وخزائن المال دخلوا إلي غياهب السجون غير مأسوف عليهم.. وناموا علي ذات المراتب التي كان ينام عليها ضحاياهم. ما أعدلك يا الله.. وما أصدق قولك "تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء" عندما علت الضجة ضد التوريث في موجة الاعتراض الأولي قال مبارك مستنكراً: "مصر ليست مثل سوريا.. مصر دولة مؤسسات وقانون ودستور".. وصدق البعض هذا المنطق.. أو ربما أراد أن يصدقه.. وأمن علي ذلك كتاب ومفكرون لعل ابرزهم الاستاذ محمد حسنين هيكل الذي أجاب علي سؤال بخصوص التوريث قائلا: "معلوماتي أن الرئيس يرفض.. والوريث أيضا يرفض". ومع هذا.. كان مخطط التوريث يسير للامام بخطي واثقة.. لا تخطئه العين.. إلي أن وصلنا إلي مرحلة أصبح فيها التوريث أمراً واقعاً ينتظر فقط أن يعلن عنه رسميا في اللحظة المناسبة. وسارت مصر علي خطي سوريا.. وربما أسوأ.. وكل القابعين علي الكراسي الرسمية يعملون بجد لتهيئة المسرح لتلك اللحظة الحاسمة.. ويتنافسون علي شرف خدمة الوريث.. وفرش السجادة الحمراء تحت قدميه. ويمكرون ويمكر الله.. والله خير الماكرين لم تكتمل اللعبة.. ولم تتحول مصر إلي سوريا.. بل إن سوريا اليوم هي التي تتحول تدريجيا إلي الثورة.. وتقتدي بمصر في النضال من أجل الحرية والعدالة وقهر الاستبداد. وكما كانت ثورتنا أكبر من أحلامنا في الداخل فإنها أيضا صارت أكبر من كل تصور في إلهامها للشعوب الشقيقة التي تبحث عن قدوة وعن نموذج للتحرر. وما يحدث في ليبيا وفي اليمن وفي سوريا والأردن أكبر والله من أحلامنا.. ومهما اتخذت من اجراءات عنيفة للقمع والقهر ضد الشعوب.. ومهما تسلحت السلطات الحاكمة بقوات الأمن والصواريخ والطائرات والدبابات فإن ارادة الشعوب هي التي ستنتصر في النهاية. لن يمر وقت طويل حتي تسقط عروش البغي والطغيان.. وتسقط أنظمة الحديد والنار.. وحكام الحزب الواحد والرأس الواحد.. لتأتي أنظمة جديدة ويأتي حكام جدد.. يخدمون الشعوب.. ويرفعون شأن هذا الوطن الذي أضعفته سلطات الاستعمار ثم أضعفته أكثر وأكثر السلطات الوطنية الديكتاتورية التي جاء بها الاستعمار ليورثها السلطة حتي تظل تمارس القهر علي شعوبها. وإذا كان التاريخ قد سجل في عشرينيات القرن العشرين ما عرف ب "الثورة العربية الكبري" التي اندلعت في شبه الجزيرة العربية والشام بدعم من بريطانيا للانعتاق من الحكم العثماني العتيد فإن الثورة العربية الكبري التي اندلعت اليوم في الكثير من الدول العربية وسيتسع نطاقها غدا ولن تستثني أحداً هي الثورة الأعظم والأكثر تقدمية لصالح الشعوب. لم تنجح الثورات العربية السابقة في تحرير الدول العربية من التبعية للخارج إلا جزئياً.. لكن الثورات العربية الحالية سوف تحرر الأرض ومن عليها.. وسوف تحرر الارادة العربية.. وتحرر الهواء العربي من الروائح الكريهة التي جعلت العالم ينفر منه. وإذا كانت الانظمة العربية الديكتاتورية قد فشلت في تحقيق ما تصبو إليه شعوبها من رفعة ورقي وعلم فإن الزمن الاتي بالحرية والديمقراطية سيجعل هذه الأهداف واقعاً ملموساً. وإذا كانت الأنظمة العربية الديكتاتورية قد فشلت في تحقيق الوحدة العربية.. ولم تفلح في انجاز عمل عربي مشترك ولو في الحد الأدني.. فإن الزمن الاتي بالحرية والديمقراطية سوف يكون الأقدر علي تحقيق الحلم العربي. قد يحتاج الأمر إلي قدر أكبر من الصبر والصمود في مواجهة آلة البغي والطغيان.. لكن النصر آت لا محالة.. والفجر آت لا محالة.. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون سوف تتغير الخريطة العربية في القريب العاجل إن شاء الله.. وستتبدل المواقع مثلما حدث في مصر.. سيخرج أبرياء من السجون.. وسيدخل الزنازين مكانهم الفاسدون والأفاقون والاكلون علي موائد اللئام. ستلفظ العروش كثيراً من الرؤساء والملوك.. وستهتف الجماهير بملء حناجرها ضد الجبارين والطغاة.. وتزلزل القصور والقلاع الحصينة.. وتذكر الفراعنة بما نسوا من مواعظ الأولين وتحذير رب العالمين: "ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون" وسوف تتغير التحالفات.. وتتغير الاستراتيجيات ومراكز القوي.. وتكون الغلبة للحق وأصحابه.. وعلي الباغين تدور الدوائر. هذه ليست نبوءة منجم.. لكنها ثقة في الله وفي الشعب وفي المستقبل.