أجمل ما في ثورة الخامس والعشرين من يناير انها غذت في الناس ثقافة التمرد علي الركود السياسي وحفزتهم علي نفض غبار خوف علق بالنفوس مدة ثلاثين سنة واعادت إليهم الثقة في انفسهم وحاضرهم والأمل في مستقبلهم. لكن اكثر ما يثير القلق الانصراف عن المطالب الرئيسية للثورة والتي أجمعت عليها كافة القوي الوطنية إلي المطالب الفئوية التي تعكس الجانب الاناني المكتسب من النظام السابق. وقد تجلت تلك المطالب الفئوية مؤخرا في استمرار خروج الاعتصامات والاحتجاجات والاضرابات من غالبية المصانع والمصالح والهيئات والشركات والبنوك العامة والخاصة الموجودة في محافظات الجمهورية للمطالبة بزيادة الرواتب والبدلات والحوافز وتثبيت العمالة المؤقتة وتخفيف ساعات العمل وتفعيل نظام الترقيات واقصاء القيادات... إلخ. ولا شك في ان مثل هذه المطالب المشروعة تفقد مصداقيتها الآن بمقتضي الظروف التي نعايشها والمحملة بميراث ضخم من الفساد الإداري والمالي الذي لم تشهد مصر مثيلا له إلا في ايام نظام الرئيس مبارك. وانما قامت الثورة من اجل بناء مصر جديدة مختلفة نظيفة من دكتاتورية الحاكم وقرصنة بطانته. من مزوري ارادة الناخبين ومؤيفي الدستور. من المحتكرين ولصوص المال العام. من مهندسي تزييف الوعي تحت مظلة الإعلام الحكومي. ومن أجل عملية التنظيف هذه تحمل القوات المسلحة علي عاتقها مسئولية ضخمة للغاية تفرض عليها اجراء اصلاحات كثيرة في مدة لا تتجاوز ستة اشهر. إن طبيعة اللحظة الراهنة تفرض علي كل وطني شريف العطاء وليس الأخذ. البذل والتضحية دون البحث عن مكاسب ومثلما لعب كل منا دورا وطنيا اثناء اندلاع الثورة وتآلفنا وتحالفنا وتكفل بعضنا ببعضنا ودافع بعضنا عن بعضنا يجب ان يكون همنا الآن المساهمة في ان تسترد مصر عافيتها ويعاد بناؤها من جديد. كل بحسب موقعه وبحسب قدراته العمال والمهندسون يتبرعون ولو بيوم واحد من اجل اعادة بناء اقسام الشرطة والمقار الحكومية وكافة مرافق الدولة التي احترقت المطربون والمطربات يقومون بإحياء الحفلات داخل مصر وخارجها ويتبرعون بعوائدها لصالح صندوق إعمار مصر او البورصة المصرية. علي غرار ما كانت تفعله أم كلثوم وعبدالحليم وغيرهما خاصة بعد نكسة يونيو عام 1967. الموظفون بالقطاعين العام والخاص يتبرعون ولو بعشرة جنيهات من رواتبهم لنفس الغرض. رجال الأعمال واصحاب المهن الحرة يتعهدون ببناء مصانع جديدة غير تلك التي تم التفريط فيها باسم الخصخصة. المهم تحول الجميع لوقود يدفع بمصر اولا ويعيدها تحت شمس الحضارة الإنسانية بما تستحقه من مكان وما يجب ان تلعبه من دور. من هنا سنجني ثمار الثورة ونحول الخسائر الضخمة الحالية إلي مكاسب في المستقبل وننتقل تدريجيا من بناء الوطن لبناء الفرد وسلامتك يا أمي يا مصر من كل شر.