أعيش على بعد أكثر من ألف كيلو متر عن المكان الذى أنتمى اليه ولم أره فى حياتى، أحلم بمستقبل لا يشبهنى، ويتقاذفنى حاضر لا أشبهه. لن أتركك تحتار عزيزى القارئ فى محاولة فهم معنى عنوان هذه اليوميات، ولكنى سأختصر عليك الطريق كما فعل معى العزيز الدكتور أسامة السعيد الصحفى والروائى والكاتب الجميل الذى حقيقة أحتار فى أن أصفه، هل أقول إنه الابن ويسمح بذلك فارق السن بيننا، أم بالأخ الأصغر حيث تزاملنا سنوات طويلة -وما زلنا- فى «الأخبار» التى تضرب دائمًا المثل الأعلى فى تواصل الأجيال والعلاقات المتميزة والاحترام المتبادل بين الجميع بغض النظر عن السن أو الأقدمية. على كل حال، وسواء كان أسامة بمثابة الابن أو الأخ فهو وهذا هو الأهم- الصديق العزيز جدًا على قلبى. وأخيرًا هو رئيس تحرير الأخبار وصاحب هذه الرواية البديعة الذى قال لى وهو يهدينى نسخة منها: إن «آرِنكا» كلمة مجرية تعنى قطعة الذهب. جاءتنى آرِنكا فى وقتها حيث كنت أستعد لإجازة صيفية قصيرة. وكانت خير رفيق، حيث تمكنت بصحبتها من معايشة أبطال من لحم ودم، وكأنى أعرفهم ويعرفوننى شخصيًا. ◄ حكاية قبيلة المجراب أما آرِنكا فى الرواية فهى تلك الطفلة النوبية المولودة فى قرية ابريم بالنوبة القديمة عام 1962 والتى طال انتظار أبيها «الطاهر عثمان» وأمها «أم البنين» لها، حيث جاءت آرِنكا للدنيا بعد سنوات من الانتظار المضنى والترقب القلق. جاءت للدنيا بوجه شاهق البياض ليس له علاقة بشمس النوبة الحارقة التى تصبغ كل مواليدها بالسمرة الشديدة.لكن ملامح آرِنكا فى النوبة القديمة لم تكن مستغربة ولا لافتة لنظر أحد أو محط ارتيابه، فالوليدة نبت جديد لأبناء قبيلة «المجراب» الذين جاء أسلافهم من أرض المجر فى وسط أوروبا واستقروا وعاشوا عقودًا طويلة فى النوبة حيث دفء الجنوب، تزوجوا من أهل النوبة، وصاروا أبناء الأرض السوداء، لكن ملامحهم لا تزال تذكرهم بأن بعضًا منهم ينتمى لأرض أخرى بعيدة، اختارها لهم القدر قبل أن يختاروا هم أن يصنعوا قدرهم على تلك الأرض التى جاءوها غرباء يسيرون فى ركاب السلطان الغازى سليم الأول قبل قرون، قرروا بعدها البقاء بعدما هدهم الترحال ربما تعوضهم هذه الأرض الطيبة عن حريتهم التى استلبها منهم الغزاة وجعلوا منهم أداة لسرقة حرية الشعوب الأخري. تصادف أن زار بيت الطاهر فى نفس يوم ميلاد آرِنكا الدبلوماسى المجرى روبرت فريمن الذى يحرص كل فترة على السفر من القاهرة للنوبة ليطمئن على أبناء المجراب ولتأكيد تلك الصلة البعيدة التى تربطهم ببلاده التى تتلمس بناء روابط مع مصر. وربما تنظر إلى هذا الخليط المجرى النوبى العربى كجسر يؤكد أن العلاقة بين النيل والدانوب أقدم مما يظن البعض. رافقت الدبلوماسى فى زيارته زوجته العاقر «بياتريس» التى تعلقت بالطفلة الوليدة منذ الوهلة الأولى وأحبتها حبًا جمًا، وانشغلت عن جميع من حولها بذلك «الوجه الوضاء الذى اختطفها من الزمان والمكان». ◄ جسد بداخله شخصان تدور أحداث الرواية، التى صدرت ضمن سلسلة أصوات أدبية التى تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، بين عامى 1962 و2015 من خلال بطلنا محمد آدم والذى ينتمى لنفس قبيلة المجراب، صاحب الشعر المجعد والملامح السمراء التى جعلته أشبه بالمطرب محمد منير صاحب الأصول النوبية، لكن عينى البطل الملونتين الذى كان يبحث طوال الأحداث عن ذاته، جعلت من يراه ولا يعرف جذوره «يشعر أنه أمام جسد بداخله شخصان»!. التقى محمد بالقاهرة عام 2010 بالفتاة المجرية كيت، مصرية الملامح حتى ظن محمد أنها وكأنها جاءت للتو بقطار الصعيد لكن لكنتها الإنجليزية المنطلقة عندما تحدثت أعادته إلى الواقع. اتضح جليًا أن هناك تشابهًا كبيرًا بين البطلين محمد وكيت، ليس فقط من الناحية الشكلية بل حتى فى السمات النفسية. لمستنى رواية آرِنكا بشكل شخصي، ربما لأننى أنتمى لتربة لا تبعد كثيرًا عن تربة النوبة رغم عدم تمكنى حتى هذه اللحظة من زيارتها، مكتفيًا بزيارتها هى لى من خلال أسرة جارتنا أم محمد يوسف بخيت التى جاورتنا فى الأقصر سنوات طوال، كانت علاقة أمى أم هشام وأم محمد وأم نبيل وأم طلعت وأم غالب وأم عزة وأم نذار وغيرهن من الأمهات من ساكنات عمارة الحاج الصن بشارع المنشية مضرب الأمثال فى كيف تكون الجيرة الحسنة بين سكان عمارة واحدة، ناهيك طبعًا عن العلاقة بين كل أمهات الشارع من أقارب وأهل وجيران، أم خيرى وأم على وأم فاروق وأم نجيب وأم بركات. كما امتدت علاقتى بالنوبة من خلال أصدقاء نوبيين كُثر التقيت بهم منذ منتصف الثمانينيات عندما حزمت حقائب أحلامى وهاجرت نحو الشمال. واستمرت تلك العلاقة حتى الآن. ◄ يتيمة الأهل والأرض أبدع المؤلف وكأنه واحد من أبناء تلك الأرض السوداء- فى وصف تلك البقعة من الأرض الحبيبة قبل وبعد تهجير أهلها بسبب بناء السد العالى كما استعرض مهارته فى سرد الأحداث من منظور الراوى الذى يسمح بتقديم وجهات نظر متعددة حول شخصيات الرواية وأحداثها خاصة عندما كان يروى على لسان محمد آدم. وكذلك وهو يتحدث بلسان آرنكا التى ولدت فى النوبة بملامح أوروبية ثم شاء لها القدر أن تفقد والديها اللذين تم اقتلاع جذورهما من أرضهما عنوة، فلا يجد الشيخ نور كبير القبيلة سوى بياتريس المجرية ليسلمها الطفلة يتيمة الأسرة والأرض بعد أن تهجّر من تهجّر ومات من مات، فأحبت بياتريس آرِنكا أكثر من نفسها وسافرت بها مع زوجها للمجر لتنشأ الطفلة هناك وتكبر وتتزوج ثم تعود لمصر فى فترة حرجة لاكتشاف جذورها. والرواية تسلط الضوء على موضوعات الهوية والانتماء. نجح المؤلف فى رسم الشخصيات بعناية فائقة تتميز بالتنوع والعمق والتطور الذى يعكس صراعاتها الداخلية ورغبتها فى فهم هويتها. كما أن انتقال الأحداث بين النوبة والقاهرة والمجر عبر تواريخ متفرقة أضفى عمقًا ثقافيًا وتاريخيًا وجغرافيًا للرواية.. وقد لخص المؤلف قضية الغربة فى تلك العبارة البليغة عميقة المعنى والمغزي، حيث جاءت على لسان البطل بعد أن عرف الجزء الخفى من قصته فتنهد قائلًا: بقية القصة أعرفها جيدًا، مكتوب على وجهى الذى أحمل ختم سمرته دون أن أنتمى حقا إليها، محسوب على أناس لا يعرفوننى ولا أعرفهم، أعيش على بعد أكثر من ألف كيلو متر عن المكان الذى أنتمى اليه ولم أره فى حياتى، أحلم بمستقبل لا يشبهنى، ويتقاذفنى حاضر لا أشبهه، غُربات بعضها فوق بعض، كبحر لجى يغشاه حزن من فوقه حزن، من فوقه ظلام. ◄ الأبطال والثورة يبدو أن أبطال الروائى أسامة السعيد لا يحملون كثيرًا من الود تجاه ثورة يناير، أو هكذا ظنى، انتابنى هذا الشعور عندما قرأت له من قبل رواية «رواق البغدادية» التى حصدت المركز الأول لجائزة الشارقة للإبداع العربى عام 2014. فثورة يناير فى رواق البغدادية لم تأت كخلاص مباشر أو نهاية سعيدة لأبطال الرواية وإن جاءت كنافذة أمل، بدت وكأنها صدى لما حلم به أبطال الرواية عبر زمنين، العصر المملوكى فى عام 1309 وزمن مصر المعاصر قبيل 25 يناير2011. ثورة يناير بالنسبة لبطلى البغدادية حسام وريم كانت نصف حلم ونصف حقيقة، أما فى آرِنكا فهى أضغاث أحلام، حيث كانت سببًا فى ضياع الحلم والأمل.. ففى اللحظة التى كان ينتظرها محمد آدم وكيت ليعترف كل منهما للآخر بحبه معلنًا عثوره أخيرًا على وطنه الحقيقي، إذا بسنابك الخيل فى معركة الجمل تدهس الشمل الذى كاد أن يلتئم، وفرقت بين البطلين. كم وددت لو أتاحت لى الظروف أن أقرأ هذه الرواية فى المناطق التى كانت شاهدة على أحداثها، النوبة القديمة وبحيرة بالاتون فى المجر حيث البيت الريفى الذى قضت فيه آرنكا أحلى أيام عمرها مع توماس ذلك الثائر المتنكر فى ثوب خادم. وهو البيت الذى شهد ميلاد كيت والتى كان قدومها للدنيا سببًا كافيًا لعودة المياه إلى مجاريها بين بياتريس وآرِنكا. تمنيت لو قرأت الفصول الأخيرة للرواية هناك بجانب الدانوب الأزرق فى بودابست بأبنيتها ذات الطابع الإمبراطورى القديم، شوارعها المتداخلة، ذلك الجسر الذى يشبه قوس النصر ويربط بين ضفتى الدانوب، جسر زيتشينى أقدم جسور المدينة ويربط بين شطريها «بودا» و»بست» والذى ارتبط فى أذهان الناس بحلم الوحدة. لكن ميزة الأدب الصادق أن يعوضنا عن تلك الأمانى صعبة التحقق كأننا نسافر فى أزمنة لم نعايشها ونزور أماكن لم نرها من قبل، كما يضيف لأعمارنا -على قصرها- أعمارًا مديدة. ◄ نهاية الرحلة كلنا يحمل ماضيه على ظهره بطريقة أو بأخرى، تجعلنا فى النهاية نتشابه وإن اختلفت الملامح. (حكمة وردت على لسان محمد آدم بطل آرِنكا)