في كتاب له عن حوض النيل. كتب الاستعماري القديم ونستون تشرشل عن العلاقة بين مصر والسودان - لم يكن قد تحول إلي سودانيين - بأن حاجة مصر إلي السودان أشبه بحاجة المرء إلي الأوكسجين. فهو لا يستطيع الحياة بدونه. ألف تشرشل كتابه في زمن كانت صفة حاكم مصر الرسمية هي "ملك مصر والسودان وبلاد النوبة وكردفان". استقل السودان في استفتاء وافقت مصر علي نتيجته. ورغم علاقات الوطن الواحد التي تجلت في عدم تأثر المواطنين السودانيين والمصريين. بارتباك العلاقات الفوقية بين الحكام. وانعكاسها بالتالي علي العلاقات بين البلدين. فإن وادي النيل لم يفقد التسمية. ولا المعني الذي يؤكد الانتماء إلي حضارة النهر العظيم. ابتعدت السياسة المصرية - في العقود الأخيرة - ليس عن السودان فحسب. وإنما عن افريقيا بعامة. وشهدت القارة تطورات مهمة. ليس آخرها ما فاجأتنا به أثيوبيا - هل كانت مفاجأة بالفعل؟ - من البدء في إنشاء سد النهضة. وكان أبرز تلك التطورات تنامي الحركات الانفصالية في الجنوب التي انتهت - في غيبة حقيقية للسياسة المصرية - بقيام دولة جنوب السودان. إذا لم تكن العلاقات بين القيادة المصرية والقيادة في كل من السودان وجنوب السودان قد بلغت المستوي الذي تحقق من خلال التلاحم الشعبي. والجوار. والتيقن من المصالح المشتركة. بل والمصير المشترك. فإن تدخل القيادة المصرية. فضلاً عن الأحزاب وهيئات المجتمع المدني. يبدو مطلوباً وملحاً لإزالة التوتر بين دولتي السودان. فقد اتهم الرئيس البشير دولة الجنوب بأنها تساعد متمردي إقليم دارفور. واتخذ بضعة قرارات. منها إلغاء تصدير نفط جنوب السودان عبر الأرض السودانية. وإلغاء تسع اتفاقيات موقعة. ويجري تنفيذها بين حكومتي البلدين. هذا هو الوقت الأنسب لكي تمارس السياسة المصرية دورها كواحدة من دول المصب في حوض النيل. بداية لأداء دورها المفتقد في مجريات السياسة الإفريقية. والإسهام في حل مشكلات القارة. والمشاركة في عمليات التنمية. والتصدي للأخطار الوافدة. بحيث نستعيد الدور الإيجابي الذي ذكرنا به الرئيس الأوغندي وهو يتحدث لمني الشاذلي عما أسدته مصر في أيام المد الثوري الذي حركه عبدالناصر لاستقلال دول القارة. وتنميتها. مهم ان تبدأ المساعي المصرية. الرسمية والشعبية. لإزالة أسباب الخلاف بين دولتي السودان. بداية لتحرك إفريقي إيجابي وفعال. فلا نكتفي بالمتابعة والرصد الإعلامي. وبالعلاقات التي تؤثر المثل "صباح الخير يا جاري.. انت ف حالك وأنا في حالي". السودان وجنوب السودان ليسا مجرد بلدين مجاورين. لكنهما الأوكسجين الذي تحدث عنه تشرشل في كتابه. ولعل ما يحدث في أثيوبيا ينبهنا إلي الغياب غير المبرر عن القارة التي ننتمي إليها. عن الاتجاه جنوباً الذي فطن إليه - منذ البداية - محمد علي وإسماعيل. وتذكرته القيادات التالية أحياناً. ثم نسيه حاكم إمارة شرم الشيخ لانشغاله بما هو أجدي!