سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عائلة ميكي تشبه مئات الآلاف من الأسر المصرية معالجة كوميدية جادة لوهم الآباء والأبناء وجوه جديدة موهوبة .. وممثلون قدامي مخلصون مؤلف ينحرف عن المسار التقليدي .. ومخرج يعلن التوبة
بقدر كبير من الصدق يعالج المؤلف عمر جمال في فيلمه "عائلة ميكي" كثيراً من المظاهر الخادعة في الأسرة المتوسطة في المجتمع المصري الآن.. عنصر المصداقية في الفيلم يولد مشاعر الألفة والتعاطف مع التجربة الفنية. ويفسح المجال أمام المتلقي لمشاركة نموذج الأم مريم "لبلبة" في خيبة أملها حين تكتشف أن الأبناء ليسوا بالصورة التي تعرفها وتؤمن بها. أو التي ربتهم عليها. هؤلاء الأبناء في الحقيقة الحقيقة لاهون عن دراستهم. ومن تعتقد أنه وصل إلي نهائي كلية الهندسة وأوشك علي التخرج مازال طالبا في السنة الثانية وأنه يتغيب عن الحضور معظم السنة الدراسية. وأن من تضع فيه أملها بعد أن تخرج وأصبح ملازم شرطة واستلم وظيفته علي علاقة بمومس يأتي بها إلي منزل الأسرة ليمارس معها ما يمارسه. وحتي الطفل الصغير "ميكي" يمثل مصدرا لمشاكل كثيرة وشكاوي مرة من المدرسين ومديرة المدرسة والابنة المراهقة "ميادة" قارعة في عالم الوهم والعلاقات الكمبيوترية ترافق شباباً وتواعدهم وتستميت لتحقيق علاقة عاطفية حتي لو كانت مزيفة والابن مازن بدوره لا يحضر الدراسة ويصادق فتوات لتخليص حقه من غرمائه.. وحين أقول الأسرة المصرية الآن. أشير إلي التغيرات الهائلة التي طرأت علي هذه "المؤسسة" التي لم تعد أساس المجتمع. حيث لم تعد الأم بقيمتها المتوارثة واستقامتها وكفاحها الوظيفي من أجل صيانة توفير طلبات الأسرة والعبور بالأبناء الي مرفأ آمن. لم تعد بمفردها المسيطر علي مقدرات هذا الكيان لأن هناك مؤثرات خارجية تلعب أدوارها في التأثير علي أفرادها وبالذات الأجيال الصغيرة أجيال الانترنت والاستخدام الشرير لإمكانياتها والمقاهي المنتشرة كالفيروسات بما فيها من ممارسات تنسف ما تبنيه الأسرة والعلاقات والإفساد المتبادل بين هذه الأجيال التي أصبحت تفرز الفتوات وتصُك مفاهيم مفسدة للبطولة والفتونة وحتي الرياضة صارت بدورها مصدرا للتعصب واللهو وتغييب العقل واشاعة الفوضي والاستهانة بأمور الحياة الجادة مثل التعليم والإعلام و... إلخ. باختصار لم تعد الأسرة المصرية مصدر السلطات في تخريج الأجيال بعد أن فقدت سطوتها علي الأبناء والسيطرة علي سلوكهم. وهم المثالية يسقط مريم التي تلعب دورها بإخلاص الفنانة لبلبة تمثل محور الفيلم وعموده الفقري. فهي سيدة متعلمة تعمل موظفة في إدارة الشئون القانونية في احدي الهيئات الحكومية وهي أم جادة. تكره الكذب وتشم رائحته من مسافة كيلو متر كما تقول في احد تحقيقاتها مع موظف منحرف. وهي تعيش في وهم الأم المثالية.. وكذلك الزوج والد الأبناء وهو لواء شرطة يلعب دوره بنفس الإخلاص أحمد فؤاد سليم. وهو نفسه مؤمن باستقامة أبنائه وثقته مطلقة في كل واحد منهم.. أكبر الأبناء مصطفي ضابط شرطة تخرج لتوه وبدأ يمارس وظيفته. الأب والأم يعتزان بأولادهما الخمسة "مصطفي ومعتز ومازن وميادة وميكي" ولفرط الثقة والإيمان بصورة الأسرة الجميلة. يتقدمان لمسابقة الأسرة المثالية التي تعلن عنها إحدي الشركات في التليفزيون وبجائزة للأسرة الفائزة مائة ألف جنيه. المفارقة أن الفترة ما بين الإعلان عن فوز الأسرة واستلام الجائزة. كشفت عن "الوهم" الكبير الذي تعيش فيه الأم ومن هنا ترددها وحرجها وإحساسها بالألم الشديد وهي تجلس وسط الأبناء أمام الكاميرا لتجيب عن أسئلة المذيعة التي توجه أسئلتها للأم والأب. ومن هنا أيضا تأتي الإجابة صادمة علي السؤال : "هل مرة تمنيت أن يرجع بك الزمن وماتخلفيش؟؟ وتجيبها مريم بسرعة وبحزن : بصراحة كتير". كوميديا دامعة الفيلم رغم الرسائل الجادة التي يتضمنها عمل كوميدي ضاحك ومسل ويخلق أجواء مرحة من خلال تصويره للشخصيات والمفارقات الناجمة عن الصورة والأصل.. صورة الشخصية في ذهن الأم وحقيقة أفعالها ومضمون هذه الأفعال كما تكشفها وكما نراها علي الشاشة. ويضيف إلي أجواء المرح خفة أداء الممثلين الشباب وتجاوبهم التلقائي مع المواقف المختلفة الطريفة وصرامة وجدية الوالدين مريم ومحمد من ناحية وهزل الأبناء وتواطؤهم لتحقيق مآربهم من ناحية أخري ثم لعبة القط والفأر التي تدور في عقر مقر الأسرة بين "المومس" الحسناء والشاب "ماندو" المستهتر الذي يغرر بالابنة "ميادة" من ناحية وبين الأب والأم والجدة وزوجة البواب أم جلال والمواقف التي تتولد من هذا الصراع الخفيف من أجل تفادي الفضيحة وتجنب العقاب من ناحية ثالثة! الأبيض والأسود يمزج المؤلف في هذه المعالجة السلسة لحياة أسرة مصرية متوسطة لا تعاني من ضيق ذات اليد. وإنما من ضيق مجال الرؤية والمراقبة بعد أن اتسعت الدوائر جدا وتداخلت تلك التي يمرح فيها الأجيال الأصغر من الأبناء. واختلاف المعايير وأنواع الترفيه ومجالات اللهو وأنساق القيم. يمزج بين الفكاهة وخفة الروح التي تميز الأداء والأجواء التي يلعب فيها الجميع.. وبين الصور القديمة التقليدية ممثلة في الجدة الضريرة التي لعبت دورها باقتدار وحساسية الممثلة رجاء حسين. حيث جسدت من خلال الشخصية محنة الأجيال الكبيرة التي فقدت إمكانيات الاستقلال بسبب اعتلال الصحة والعجز وأصبحت تتكيء علي الأبناء. وهنا يشير الفيلم إلي الجفاء الذي يبديه الأبناء وإلي إيقاع الحياة المتسارع الذي لا يفسح لعلاقة إنسانية مشبعة بين الأم وابنتها ولا بين الجدة وابنها "خالد" الذي لا يظهر في الفيلم وإنما نتعرف علي موقفه من خلال المكالمة التليفونية حين يعبر عن رفضه لاستضافة أمه "رجاء حسين"!! هنا تعيش الجدة وهما آخر غير الوهم الذي عاشت فيه ابنتها "مريم" وأعني وهم الولاء والحفاوة التي تتوقعها من الابن. بينما الابن يخشي من غضب زوجته وعدم ترحيبها بحماتها ويخضع لرغبتها. وقد نجح الفيلم ومخرجه أكرم فريد في إشاعة جو عائلي أليف. وتصوير عصري لتركيبة الأسرة المتوسطة وأنواع التحديات التي تواجه زوجة موظفة في مجتمع يشد الأبناء إلي دروب تنحرف بهم عن "المسار التقليدي" المُسلم به من قبل جيل الآباء والأمهات ممن في عمر الأم والأب "مريم ومحمد". كما نجح المؤلف والمخرج في إضافة مستوي ثالث من الخداع يمارسه المجتمع نفسه وبعض مؤسساته ممثلة في الشركة المنظمة لمسابقة الأسرة المثالية. وممثلها النصاب الذي يحول النصب إلي نظرية يشرحها بمنتهي الثقة لإقناع سيادة اللواء وموظفة الشئون القانونية أي الأب والأم بالتنازل عن قيمة الجائزة من أجل الحصول علي شرف اللقب "الأسرة المثالية". والطريف أنها تتنازل بالفعل وأعتقد شخصيا أنه موقف واقعي وعملي في زمن يكتسب فيه الإعلام والشهرة أهمية قصوي. فمن الأشياء التي تميز الفيلم النزعة الواقعية التي عالج بها الحبكة والشخصيات والنظرة الواعية التي تناول بها كيفية اكتساب الابن مصطفي في أول تدريب عملي له في قسم البوليس. سمة العنف حيث كان يخشي المجرمين ولا يحكم قبضته علي المطلوب القبض عليهم في إشارة لماحة ومتوازنة لأهمية "العنف" في وظيفة ضابط الشرطة! فقس جديد من دواعي التفاؤل رغم المصاعب التي تعيشها صناعة السينما خروج فقس جديد من الممثلين والممثلات الشباب. وأعتبرهم براعم زاهية لديهم الموهبة وإمكانيات الأداء المقنع كما أنهم يمتلكون حساسية وروح الجيل الذي يعبرون عن مشاكله واضطراباته النفسية واحتياجهم للحنان والحب رغم أي شيء. إن بمقدار هؤلاء الشباب التعبير عن مظاهر التغيير والتطور التي طرأت علي الحياة وجعلتها تختلف جذريا عن حياة الأجيال السابقة والفيلم بسرعة استطاع أن يعبر عن فجوات الأجيال. وعن تركيبات الحياة من دون حذلقة أو افتعال.. وقدم في النهاية توليفة فيلمية سهلة الهضم ومريحة ومعبرة ومتسقة جدا مع التجربة الأولي للمؤلف وأقصد فيلم "أوقات فراغ" الذي كان بدوره نقلة نوعية في أسلوب تقديم نماذج حديثة من الشباب تختلف جذريا عن المعتاد في سينما التيار الرئيسي التقليدية.. إن الفيلم ينتمي إلي الإنتاج المحتمل ماليا ونجاحه يعني تغييراً في نمط الإنتاج السائد. أتمني لهذه التجربة أن تنجح مثل "أوقات فراغ" فقد جمعت الكبار : لبلبة واحمد فؤاد سليم ورجاء حسين. وسامي مغاوري في دور استاذ الجامعة وبين الوجوه الشابة في عمل يستحق الثناء ومن الممكن عرضه كنموذج صادق لأسرة تمثل مئات الآلاف من الأسر في الشعب المصري. الملاحظ أن مخرج الفيلم أكرم فريد أراد بهذا الفيلم أن يتوب عن نوع الأفلام التي يقدمها. المهم أن تكون توبة نصوحاً.