اكتب عن فيلم قديم يعود تاريخ إنتاجه إلي أكثر من نصف قرن "1959". الكتابة عن عمل فني تتأثر - بالضرورة - بالمرحلة التي يستقبل فيها الناقد هذا العمل.. بالظروف المحيطة والمغايرة ربما عن تلك التي تلقي فيها هذا الفيلم نفسه لأول مرة لا ينفصل "الفرجة" عن المناخ الثقافي والاجتماعي والفني السائد وقت عرضه.. ثمة دوافع ثقافية وفنية وشخصية جعلتني أترك قراءة الصحف اليومية بما فيها من أخبار وأحداث وأشياء موجعة ومحبطة وأشاهد فيلم شارع الحب"!!" هناك دائما عناصر تضاف إلي "القراءة" القديمة ربما لم يلتفت لها المتفرج.. أو ربما لم تفرضها ظروف الفرجة. أولا: مؤلف هذا الفيلم "يوسف السباعي" ومخرجة عزالدين ذو الفقار ينتميان إلي المؤسسة العسكرية الوطنية"!!" هذا الفيض من البهجة ومن الترفيه الإنساني الكوميدي من إبداع خريجي الاكاديمية العسكرية.. الابداع ليس بعيداً عن الروح الوطنية. بل هو لصيق بها. وجوهر الفن من بين العناصر المهمة جداً في الدفاع عن الشخصية الوطنية. وعن قوميتها وثقافتها ولغتها وشتان بين هذا المفهوم وبين ما يوجه إلي الثقافة وإلي الفنون من مهام وأسلحة ثقيلة الآن! ثانيا: إن أهم عناصر الجذب تلك الجرعة الصافية السخية من "البهجة" وما أدراك ما تأثير البهجة علي النفس في زمن الكرب العظيم الذي نعيش فيه!! شخصيات مثل سنية ترتر "زينات صدقي" وحسب الله السادس عشر "عبدالسلام النابلسي" وباقي أعضاء الفرقة يشكلون نماذج رائعة لمعني التكافل. لأهمية الدافع الإنساني. ولروح التعاون بين البسطاء. ولشهامة فنانين كانت لهم أحلام لم تحقق إلا بظهور المطرب الموهوب عبدالمنعم صبري "عبدالحليم حافظ" الذي أضاف قيمة إبداعية وانعش الوجدان الجمعي لهؤلاء. "شارع الحب" يبدأ بمقدمة رائعة مكتوبة علي الشاشة عن دور شارع "محمد علي" في افراز فنانين علي كل شاكله. عن كونه تربة للابداع وللأحلام وعن فرقة حسب الله التي انتشرت في الميادين بدءاً من ميدان الحسنية وحتي ميدان الاسماعيلية. وشارع "محمد علي" من الاماكن التي أحب التجوال فيها. ولكنني لا أجده.. طمسته الأيام!! وحسب الله المنفوخ بفنه. شديد الاعتزاز بنفسه لأنه فقط "فنان" والفن هبة منحها الله للإنسان حتي يبدع ويتأمل ويضيف إلي الكون جمالا.. إنه "نابليون" الفن كما يعتقد.. وقد هزم "نابليون" والمعارك لم تنته! في هذا الفيلم لفتة رائعة تشير إلي الإيمان المطلق بالتعليم وبأن الموهبة وحدها لا تكفي. جاد الله "حسين رياض" الموسيقار الفنان الهارب من العدالة بعد جريمة قتل لزوجته الخائنة التي أذلته. يصر علي تعليم "عبدالمنعم" ابن صديقه المتوفي في معهد الموسيقي العربية. والفرقة الفقيرة البائسة فرقة حسب الله تتعاون من أجل تعليمه. "سنية ترتر" تمنحه ما تملكه. الفرقة كلها تهتف "نموت نموت ويحيا المعهد" أي يحيا العلم. يحيا التعليم الأكاديمي.. فالتعليم قيمة تستحق التضحية وبدونها لن يكون "عبدالمنعم" وما صار إليه في النهاية انه نتاج موهبة وعلم معاً. منفذ العدالة لم يتنازل عن القيمة الرائعة التي تمثلها "العدالة" هو نفسه عاشق للفن. ويعرف روح القانون في نفس الوقت. وجاد الله المعلم والفنان والمايسترو وموزع النوتة الموسيقية جدير بالحماية وقد عاني من الظلم الطبقي ومن صلف الاثرياء. ومن فتنة امرأة لم تقدر أثمن ما يملكه واعني روحه الكريمة وإبداعه الإنساني. التنافس غير الكريم والهيافة التي تحكم سلوك بعض أبناء الطبقة الميسورة ومنهم "كريمة" "صباح" ومرفت "منيره سنبل" سلوكيات أدانها الفيلم برفق ومن دون مباشرة. وعالجها باسلوب يضيف إلي روح الفيلم المرحة. وإلي مصادر البهجة الخفيفة سهلة الهضم.. وقد خلق من هذه الطبقة الغنية نماذج تتنازل أمام الموهبة وتقدر معني الفن. ولا تقف في سبيل التزاوج بين الفقير الثري بموهبته وبين الغنية المفتونة بكفاح الشاب الفقير الذي بدأ معدماً ثم أصبح من المشاهير. أسلوب تقديم فن وموهبة عبدالمنعم صبري الذي أسكنته "الفرقة" فوق أسطح منزل "سنيه شخلع" أو "سنية ترتر" أسلوب آسر وبسيط في نفس الوقت لأنه اعتمد بالكامل علي عزف هذا الفنان المتخفي علي الناي وعلي صوته في الموال البديع الذي سحر سنية وحرك الفرقة بأكملها وجعلها تهرول إلي السطح للبحث عن مصدر هذا "السحر" أي أنه بدأ "بالصوت" والشخصية المسموعة. بالنغم. بالمشاعر والاحاسيس وعالج هذا المعني برهافة وحساسية واتجاه إلي التأثير الشعوري أولا. تأثير شارع الحب بعد أكثر من خمسين سنة. وسط هذه العتمة السائدة من الجهل والتطرف ومعاداة الجمال والثقافة والوقوف ضد مصادر العلم والتعليم وتحريم البهجة ومصادرة الحرية أقول تأثيرة نافذ. "شارع الحب" من إنتاج حلمي رفلة المخرج والمنتج السينمائي صاحب شركة الانتاج المعروفة وممول كثير من الاعمال الفنية التي انصهرت من خلالها "عناصر الأمة" ومكونها الإنساني الفني والثقافي الفني وكانت ضمن شركات يملكها أساطين آخرون صنعوا البهجة مثل رمسيس نجيب الذي أنتج كثيراً من الاعمال "الإسلامية" التي تعالج فترات من تاريخ الدعوة وبدايات ظهور الإسلام!! نحتاج إلي شوارع للحب وليس إلي شارع واحد اندثرت معالمه.. نحتاج إلي "أفلام" تقوي معنويات هذا الشعب المكتئب رغم قدرته الخالدة علي إنتاج النكتة وبعث روح الدعابة حتي في الليل البهيم. شاهدت شارع الحب بينما أعاني آلاما مبرحة أقعدتني عن الحركة واشهد ان تأثيره تجاوز البنادول والترومادول وباقي المسكنات.