شحنت زيارة تونس بعد ثورة الياسمين، بالشجن والشغف لمعرفة الكيمياء المدهشة التي تجمع الشعب التونسي والمصريين، علي نحو يستعصي علي التفسير، ربما لان الجغرافيا والتاريخ يجعلان من تونس، ومصر متشبهين، فالحدود السياسية لهما مع جيران عرب فقط والاثنان يتجها إلي الشمال المتوسطي، بينما تجلت المشتركات بين الشعب المصري والتونسي في أقصي صورها عندما الهمت الثورة التونسية الثورة الشعبية المصرية شرارة البدء، وقد لا يختلف اثنان علي عروبة مصر، وحب الشعب التونسي للمصريين، فالشوارع التونسية برلمان شعبي انتخب الثقافة المصرية، ممثلة في الغناء وصوت أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، فيما يري الشباب التونسي في الافلام والمسلسلات، وسيلة للتعرف علي اللهجة المصرية، المحببة لديهم، لكن هل مازالت تونس تسبق مصر في ثورتها الشعبية بخطوة أو أكثر؟ علي المستوي السياسي قد يكون الوضع معقدا لديهم، بعد أن اختاروا طريقا طويلا للديمقراطية، فيما اخترنا طريقا مرهقا متعثرا في متاريس مقاومة التغيير، وأعداء حركة التاريخ، ومحاكمة النظام السابق، والمحاكمة لديهم غيابية، لكن لدينا عبثية، لكن إن المؤكد أن هروب زين العابدين بن علي إلي منفي الفاسدين السعودية، دفع التيارات السياسية المتباينة إلي اختيار هدف هو الانتقال إلي واقع جديد، بمعطيات جديدة، وإن أكتوبر المقبل هو موعد الاحتكام إلي صناديق الاقتراع لكتابة الدستور، عبر لجنة تأسيسية. بين السعادة والخبز إذا كان يبدو علي المصريين سعيهم الحثيث علي مقاصد حياتية، وتأمين مسارات اليوم بطموح لا يتجاوز أكل العيش، بينما يسعي التونسي إلي السعادة والبهجة، والاستمتاع بطبيعة بلد يوصف بانه جميل، حيث يطلق التوانسة علي العمل لفظ خدمة، وقد اتيح للطبقة المتوسطة في تونس فرص النمو، لتصبح متينة وقوية، حيث يمتلك اكثر من 80% من السكان بيوتهم، ويبدو أن عدد السكان الذي يبلغ 11 مليون نسمة، تقريبا يحبون خريطتهم من الجنوب الي الشمال، صحيح أن الحكومة لم تكن تري غير المركز فقط، لذلك احد اسباب الثورة كان اهمال الجنوب، بينما في مصر عاني بلد من التهميش. علي الرغم من أن يوم 25 يوليو الماضي والذي يتزامن مع مرور 54 عاما علي اعلان الجمهورية، في تونس مر مرور الكرام، الا انه اثار شجنا عميقا في نفوس التونسيين، عندما استعرض أول رئيس جمهورية، بعد الثورة ، فؤاد المبزع للجيش الوطني، ليظهر الجيش من جديد في المشهد، ويستدعي تداعيات موقف الجيش مع الشعب في ثورته، واعترافه بالثورة وضرورة التغيير. علي الرغم من الوشائج التي تربط تونس بالثقافة الفرنسية والتأثير الواسع لبلاد الجن والملائكة ومدن النور ومصانع الحروف والمعني في الفضاء التونسي، الا أن التركيبة السكانية هي مزيج من العرب والأمازيغ والفينيقيين والأوروبيين والأتراك والأفارقة والرومان وأندلسيين. والأمازيغ هم أول من سكن البلاد لكن المحطة الأبرز في تاريخ تونس القديم تتمثل في وفود الفينيقيين الذين قاموا بتأسيس قرطاج في القرن التاسع قبل الميلادي. فقد سيطر الرومان علي شمال أفريقيا حتي القرن الخامس الذي شهد سقوط الإمبراطورية الرومانية، بعدها قدم إلي تونس مجموعات عرقية أوروبية أهمها الوندال. وفي القرن الثامن دخل العرب المسلمون البلاد، بعدها جاء عدد كبير من العائلات والقبائل العربية لتأخذ تركيبة البلاد من وقتها شكلها الحالي. شهدت البلاد أيضا وفود آلاف الأندلسيين الذين التجأوا إليها بعد طردهم من قبل المسيحيين كما عرفت ابتداء من القرن السادس عشر استيطان عدد كبير من العائلات التركية. إذ يمثل المسلمون 98% من السكان، مع اقلية مسيحية ويهودية، وعلي الرغم من تعدد الاعراق، الا انه لا توجد نزعات عرقية أو طائفية، تهدد المجتمع التونسي، كنسيج واحد. اختلف الناس في تونس حول احقية محمد بو عزيزي، كونه رمزا للثورة واحد اسباب تفجرها، بل يستنكر البعض عليه استحقاقه الشهادة، كونه اقدم علي فعل عدمي، او بسبب تطاوله علي الشرطية، علي نحو فاضح، لكن المؤكد أن منذ اشتعال المظاهرات، وحتي 14 يناير الماضي وهروب بن علي، استطاع شعبها من رأس جدير في الجنوب، الي بنزرت بلاد الجلاء، علي رمال المتوسط، أن يعبئ فضاءها برائحة الياسمين والحرية، فالياسمين في تونس ليست زهرة بيضاء جميلة، او مصدرا للرزق، وزيادة الدخل يستوعب آلاف من الشباب للعمل في هذا النشاط الاقتصادي، بل الياسمين معني تجده في سلوك التوانسة، حالة من الهدوء والبهجة تجمع بين الواقعية والرومانسية، في آن واحد، الياسمين رمز قومي، يشترك فيه الجميع سواء كانوا مؤيدي الثورة أو مناهضين لها، سواء فقراء او أغنياء. السياحة السياحة عنصر رئيسي في النتاج القومي الإجمالي، لدرجة تصل الي النصف، ويبدو أن تونس لها نصيب كبير من اسمها كما يري المؤرّخ التونسي عبد الرحمن بن خلدون أن أصل كلمة "تونس" التي أطلقت علي حاضرة شمال إفريقية ترجع إلي ما عرف عن المدينة من ازدهار عمراني وحيوية اقتصادية وحركية ثقافية واجتماعية فقد أشار إلي أنّ اسم "تونس" اشتقّ من وصف سكانها والوافدين عليها لما عرفوا به من طيب المعاشرة وكرم الضيافة وحسن الوفادة. كما يوجد تفسير آخر يقول إن الكلمة من جذع فعل أنس الأمازيغي والذي يعني قضاء الليلة. فيما يري البعض الآخر أصل الكلمة يرجع إلي كلمة تينس التي وصفها ديودورس وبوليبيوس والتي يبدو وصفها قريباً من منطقة القصبة بضواحي تونس حاليا. لم تستطع تونس أن تخفي ولعها بالفنون والإبداع والجنون بحب الحياة، فعلي امتداد الساحل التونسي تمتد المهرجانات الفنية والثقافية، في أول صيف بعد ثورة الياسمين، في حرص بالغ مصحوب بالحذر، أن تظل علاقتها بالفنون والألوان دائمة متجددة، مزج التوانسة كل شيء في تونس لغة الألوان بمطالب الثوار، باللغة العربية، والعامية التونسية، واللغة الفرنسية، ولغات أخري تجمعت علي شاطئ المدينة الساحلية المحرس لتنسج مشهدا جماليا. فقد جاء صوت مهرجان المحرس في دورته 24، علي نحو مختلف، أعمال فنية بطعم الثورة، وفنانون يتسابقون في المشاركة وخاصة الشباب، في حماس لا يقل عن درجة حرارة طقس شهر يوليو. الصعيد الثقافي، قد تكون تونس استطاعت وهي تستقبل، اول صيف بعد ثورة الياسمين الربيعية، أن تضيء الشواطئ بالفعاليات الفنية والثقافية، بل ظهر إصرار علي وجود المهرجانات الفنية التي تقام علي طول الساحل، باعتبارها نشاطا حياتيا سنويا. الجسد الخشن علي الرغم من أن مهرجان المحرس الدولي يشارك فيه فنانون من العالم، إلا أن الجغرافيا تدفع البوصلة إلي التعرف علي تونس من الجنوب الملتهب الذي يجسد الجزء الخشن من الجسد التونسي، بينما يحلو للبعض أن يعرفها من الشمال الساحلي، المواجه لأوروبا، فالمحرس مدينة صغيرة، في المنتصف من الشريط الساحلي علي المتوسط، تجمع بين جذوة التمسك بالأصيل، والتطلع للشمال. لكن الثورة التونسية الشعبية فرضت وجوب بناء الجسور، بين الجنوب والشمال، فهل تسطيع؟ عرفت تونس من الجنوب إلي الشمال، صحيح قضيت ليلة في حلق الوادي، أحد ضواحي العاصمة، بالقرب من المطار الدولي، والتي تتشابه مع مرسي مطروح المصرية، مع فارق غاية في الأهمية أن ارتفاعات المباني، في تونس إجمالا تسمح أن يعيش البشر مع السماء، والفضاء الإنساني المريح، وليس مع عمارة تحجب الهواء، وحضور السماء، وتضغط كل دقيقة اسمنتيا، علي النظر والنفوس. أما السينمائية التونسية سنية الشامخي، فقدمت شريطا مبهرا عن فن المزود الموسيقي الشعبي، وعلي الرغم من أهمية الفيلم كوثيقة تحفظ لفن تراثي بعضا من حقه، وتكشف عن معاناة اصحابه، الا أن الحضور انقسم حول اهمية وجود الفن ذاته، وانتقد البعض بشدة ركاكة وتوجهات فن المزود. لكن المؤكد أن المهرجان طرح بقوة الفنون بفروعها المختلفة سواء ابداعيا وعلي بساط البحث والتأمل. أتاحت الورش في المهرجان للفنانين الشباب فرصة عظيمة للتجريب، واختبار اساليب، والتقنيات، ومنهم داليزار شطورو، سهام بن نصر، هيفاء التكوثي، شيراز لمام، شيراز مرعي، حنان عمارة وحذامي سلطان، بينما شكل عبدالله بولعباس في الخشب نحتا، واتجه حسيب حمدي الي الفسيفساء. أغصان الزيتون جاء المعرض الذي افتتحه وزير الثقافة، من نتاج الورشة، انعكاسا لأيام العمل الاربعة القليلة التي انخرط فيها الفنانون المشاركون، وعكست الاعمال الفنية نبض أفكارهم وإن لم تكشف عن كامل اساليبهم، في الوقت الذي لفت الانتباه عمل مفاهيمي علي شاطئ المحرس، قدمته الايطالية "ماري أنجيلا أنتور" التي جاءت بصحبة فريق من نفس مدينتها باليرمو ، حيث شارك في العمل كل من "آنا ماري أمورلو" و"ميمو بالميزي"، وعناصر العمل من اغصان الزيتون، والخشب يسمح أن ينطلق من الساحل التونسي، سابحا فيما حرص الفنانون علي أن يحولوا اغصان الزيتون إلي الذهب الاحمر او المرجان، والعمل اجمالا ينطوي علي رمزية الحرية. أقسمت علي انتصار الشمس، هو مفتاح الأمسية الموسيقية، وشعار الفن الملتزم الذي قدمته فرقة الحمائم البيض، بساحة مقهي بورسعيد، تلك الفرقة التي يرجع تاريخها الي اكثر من ثلاثين عاما، وتغني اشعار محمود درويش، فدوي طوقان، احمد فؤاد نجم، سميح القاسم وبابلو نيرودا، ومن تونس الفقيد اللغماني وآدم فتحي، ووجدت الحان الشيخ أمام في امسيات الفرقة بقوة علي نحو حماسي، وقوبلت بحفاوة كبيرة من الجمهور. يتجلي وجود الرمان في تونس من خلال المدرج الأثري بالجم، يعتبر أشهر المدرجات الافريقية من ناحية المحافظة عليه، ووجوده متماسكا، حيث بني في بداية القرن الثالث الميلادي، ويضاهي مدرج كوليزي بروما، ومدرج كابو. يتسع المدرج لثلاثين ألف متفرج. وكان يقام فيه ألعاب مختلفة مثل مواجهة بين المتصارعين والحيوانات المفترسة. في الرحلة إلي الشمال دخلت المدينة التاريخية المهدية التي مازالت تحتفظ بأصالتها، تلك المدينة شهدت انطلاق المعز لدين الله الفاطمي، شرقا إلي نهر النيل، ليقوم بتأسيس مدينة القاهرة، كما تعاقب علي المدينة بعد خروج المعز لدين الله الخليفة الفاطمي الرابع إلي الحكم في مصر سنة 360 ه/970م وتأسيس مدينة القاهرة. تزامن وصولي للمدينة مع بداية مهرجان البحر، وشهدت بداية انتشار الحرفيين في عرضهم منتجاتهم التراثية، في مدخل المدينة القديم، تحت قصبة سقيفة الكحلة، لكن المدهش هو تدشين بداية هذه السوق من خلال عزف فرقة موسيقية نحاسية، تتبع جمعية اهلية، أعضاؤها من الفتيات فقط، تكبدوا مشقة السفر من منطقة اخري للمشاركة في تنشيط فعالية فنية وثقافية. يبقي أن تونس تفتح ابوابها وهي ترتب البيت من الداخل، وتطرح السفر والارتحال علي خطوط الجغرافية الساحرة، عقيدة واسلوب حياة، وتجعل من المهرجانات وسيلة فنية وثقافية وسياحية واقتصادية، للمساهمة في إثراء الحياة الاجتماعية، وخلق فرص باستمرار علي نحو خلاق، رغم المعاناة.