جلس أمامي.. رجل في مقتبل العمر يسكن عينيه حزن شديد.. وتلازم يديه "رعشة" خفية.. أخذ يتكلم بنبرات هادئة قائلا: عشقت تراب هذا الوطن ورحت أغرس في أولادي هذا العشق شبابا وصغارا حتي انطلقت شرارة الثورة المباركة لتدفعني دفعا للتعبير عما ظلم مخزونا بداخلي طوال عقود.. فخرجت.. وخرج ولداي الكبيران لنردد معا "سلمية.. سلمية" واشتد بنا الأمل ان تحقق الثورة أهدافها وأن تطمئن أرواح الشهداء الذين سقطوا بأن دماءهم لن تذهب هدرا.. لكن توالت الأحداث الدامية بين محمد محمود ومجلس الشعب وحتي أبووافية بالقرب من سكني في الشرابية.. أحداث لم تثننا عن المضي في المشاركة في كل فعالية من فعاليات الثورة يدفعنا في ذلك حب الوطن ولا شيء سواه.. حتي كانت أحداث محمد محمود "نوفمبر 2011" ليسقط ولدي الكبير "أحمد" بطلق ناري ليلقي ربه شهيدا بإذن الله طلقة قابلتها "جلطة" عند زوجتي لتسلمها الي شلل نصفي خفيف. مرت الأيام الأولي من استشهاد "أحمد" وأنا وأمه نتلمس طريق القبول والرضا عنه مسئ أن تهدأ نار قلبينا علي ولدنا الغالي حتي زارني في رؤيا وقد ارتسمت السعادة علي وجهه وسكنت السلامة كل ملامحه عدا اليد اليمني فظهرت وكأنها تعاني كدمة شديدة يلفها التراب. في البداية لم أجد تفسيرا لحال اليد اليمني بل لم أعره اهتماما فيكفيني أن ولدي الحبيب في منزل صدق عند مليك مقتدر.. لكن ظلت نفس الرؤيا تلاحقني وصورة ابني "المختنقة" تقلقني.. قلق سكن قلبي ولم أذع به لأحد الي ان جاء اليوم الذي تلقيت فيه الطلقة الثانية بموت "محمود" الشقيق الأصغر لولدي "أحمد".. سقط شهيدا في أحداث أبووافية وان عجزت الأدلة حتي الآن عن ثبوت ذلك. استشهاد ولدي الثاني هذا النبأ الذي ظلت تخبرني به الرؤيا الغامضة ولا أعلم له تفسيرا حتي نزل بي ليهزني هزا.. ويذيق أمه مرارة الإصابة بجلطة ثانية لتستقر إصابتها بشلل نصفي أيسر.. صدمات متتالية جعلتني أكثر قربا من الله والتزاما فقد أقلعت عن التدخين عقب استشهاد ولدي أحمد.. وصرت أتأمل قضاء الله ورحمته بي وبأمه حين رزقنا سبحانه بالتوءم "ياسين" و"يحيي" قبل عامين ونصف العام من استشهاد شقيقهما الأكبر.. نتأمل قضاءه عز وجل في ولدنا محمود الذي سار علي نهج شقيقه الراحل بالتحاقه بالثانوي الفندقي حتي اختاره ربه الي جواره في يوم ميلاده.. نعترف بفضله علينا حين أعطانا دخلا إضافيا يعوضني عن المعاش الهزيل الذي اتقاضاه عن وظيفتي السابقة.. معاش الشهيد لأواجه به مصاريف تعليم أبنائي الخمسة والتكاليف الباهظة لعلاج أم أولادي. نعم اكتويت بفراق أعز الأحباب لكن فيض الله كان عليّ عظيما حين اختار اثنين من أولادي ليكونا فداء للوطن.. فلله ما أعطي ولله ما أخذ.. ولابد أن تمضي الحياة. الأب المكلوم: محمد محمد عبد الحميد الشرابية ** المحررة: لا أدري أهي الصدفة؟.. فأول أمس كان موعدي مع صاحبة "علمتني علياء" تلك الأم الثكلي التي فقدت عروس حياتها ابنتها الشابة بعد صراع مرير مع مرض عضال.. هذا المرض الذي لم يفتر عزيمتها نحو النزول الي ميدان الثورة والوصول الي أعتابه. واليوم يأتي موعدي مع الأب المكلوم في اثنين من من أبنائه ورغم عظيم مصابه فعزاؤنا أنهما شهيدان بإذن الله ورغم عظيم مصابه فهو أخف وطأة ممن فقدوا أبناءهم دفعة واحدة ولعل حادث تلاميذ المعهد الأزهري بأسيوط عنا ليس ببعيد. أعود لأقول.. بين الرؤيا الغامضة والمكتوب عشت أيها الأب المكلوم تكتم قلقك حتي نبأتك الأقدار بما تخفيه لك من أحزان.. صدمات متتالية تحملتها أنت في ثبات تحسد عليه اللهم إلا من بعض حزن يسكن نظراتك ورعشة تلازم يديك.. صدمات عجزت زوجتك الثكلي عن ملاحقتها فنزلت بها الجلطة وراء الأخري لتخصم من صحتها الكثير في وقت لا يزال تحت رعايتها أبناء صغار. زوجتك التي لا أملك ما أهديه لها سوي قصة تلك السيدة التي أصابها شلل مفاجئ وباتت تبكي الأيام من سجن العجز وذل الطلب.. وذات ليلة من ليالي رمضان أخذت تبتهل الي الله ان يرزقها الشفاء التام.. دعوة تفتحت لها أبواب السماء ففي ليلة من نفس الشهر الكريم ظلت تنادي علي إحدي بناتها لتناولها "كوب ماء".. لم تسمعها.. اشتد بها النداء ليتحول الي صراخ أعقبه نهوض من الفراش لتفاجأ بأنها استعادت قدرتها علي الحركة.. هذا الفضل والنعمة الذي ترجمته تلك السيدة شكرا وعرفانا لله حينما نذرت حياتها لرعاية المسنين والمرضي.. فأقامت دارا لهم وباتت تسهر علي راحتهم وتخفف من أوجاعهم. أردد علي زوجتك المبتلاة في اثنين من زهرات عمرها قوله تعالي "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله" الآيتين 169 و170 من سورة آل عمران.