بكل المقاييس كانت زيارة الرئيس محمد مرسي إلي روسيا مميزة وكاشفة لتوجه جديد في السياسة الخارجية المصرية يخرج بها من الاطار الغربي الأمريكي تحديداً لتنفتح علي الشرق مرة أخري .. وقد بدا هذا التوجه مع الهند وباكستان والصين وماليزيا وإيران .. وأخيراً روسيا .. وهي الدولة التي كانت حليفاً تقليدياً لمصر إبان عصر عبدالناصر .. وجاء الدكتور محمد مرسي ليقول لهم في هذه الزيارة : "في المجال السياسي .. أتحدث عن تحالف حقيقي وقوي مع روسيا الصديقة". ورغم أن الرئيس كان حريصاً في أحاديثه الإعلامية التي سبقت الزيارة والتي تلتها علي تأكيد أن التوجه المصري إلي الشرق لا يعني إعطاء ظهرها إلي الغرب وأوروبا تحديدا التي زار الرئيس بعض دولها قبل روسيا. إلا أن ذلك لم يمنع التكهنات التي انطلقت تتحدث عن حنين مصر ورغبتها في أن تنفك من أسر العلاقات الاستراتيجية مع أمريكا التي جعلتها في النهاية رهينة لمفاوضات ومراوغات صعبة ومرهقة مع صندوق النقد الدولي من أجل 8.4 مليار دولار. تريد مصر من هذا التوجه الجديد أن تحصل علي العلم والمعرفة والتكنولوجيا والاستثمارات الحقيقية طويلة المدي .. وقد تحدث الرئيس مرسي كثيراً أثناء الزيارة عن السد العالي ومجمع الحديد والصلب بحلوان ومجمع الألومنيوم في نجع حمادي وضرورة إعادة تحديث وتطوير هذه المواقع وتشغيلها بأضعاف طاقتها وإنشاء صناعات أخري مماثلة تستوعب الشباب العاطل الذي يهيم علي وجهه ليلاً ونهاراً ولا يفكر إلا فيما يدمر بلده. لقد شبعت مصر من الصناعات الترفيهية والاستهلاكية وتريد أن تعود الآن إلي الصناعات الثقيلة في المعادن والبترول والكهرباء والغاز والطاقة النووية .. وتستطيع روسيا أن تقدم المال والتكنولوجيا مع تسهيلات مريحة في السداد .. وشعر الجانب المصري بأن التعامل مع روسيا ودول الشرق عموماً أكثر أمناً في هذا السبيل .. فروسيا الآن تغيرت كثيراً عن الاتحاد السوفيتي السابق وصارت تقدم المصالح المتبادلة علي الأجندات الأيديولوجية ورغبة الهيمنة في تعاملها مع العالم. في كلمته أمام حفل عبدالعليم قال الرئيس مرسي إنه تلقي تقارير تفيد بأن مجمع الألومنيوم في نجع حمادي ينهار ويكاد يغلق أبوابه وأكد في نبرة عالية حاسمة أنه لن يسمح بذلك وسيبذل كل جهده لكي يعيد المصنع إلي كامل طاقته وأكثر .. وفي أثناء الزيارة لروسيا تحدث الرئيس كثيراً عن المجمع وعن ضرورة مضاعفة انتاجيته "بالتكنولوجيا الروسية والخبرة المصرية". وقد كان واضحاً أن رغبة د. مرسي في تطوير علاقات استراتيجية مع روسيا وجدت صدي طيباً لدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحكومته .. كانت حفاوة الاستقبال دليلاً علي ذلك .. والاهتمام الواضح في وسائل الإعلام الروسية كان ايضاً دليلاً علي ذلك .. وكل من تابع الزيارة توقف عند ملاحظة ذات مغزي .. فقد كان مقرراً أن تستغرق مباحثات الرئيسين ثلاث ساعات علي الأكثر .. تبدأ في الواحدة ظهراً ثم تنتهي في الرابعة .. وتكون جلسة المباحثات الثنائية المغلقة ساعة واحدة والمباحثات الموسعة التي ينضم إليها الوفدان ساعتين لكن الذي حدث أن المباحثات الثنائية استمرت 4 ساعات كاملة والموسعة استغرقت ساعتين. حينما طال بنا الانتظار ونحن نتابع المباحثات في منتجع "سوتشي" الدافئ علي البحر الأسود أخذنا نضرب أخماساً في أسداس عن مغزي هذا التأخير الذي امتد بالمباحثات إلي 6 ساعات سبقتها 4 ساعات أخري في الاعداد والتجهيز. وحرمنا من الراحة والغداء. لكن أعضاء الوفدين المصري والروسي كانوا يجيبون عن أسئلتنا بابتسامات تعني أن تمدد المباحثات إشارة إيجابية مرغوب فيها .. وأن النتائج سوف تعلن كاملة في صالح البلدين في صورة مشروعات محددة واتفاقيات قابلة للتنفيذ والمتابعة. تقول وسائل الإعلام الروسية إن الكيمياء الشخصية لعبت دوراً مهماً في التقريب بين الرئيسين مرسي وبوتين منذ أن التقيا خلال قمة "بريكس" في دوربان بجنوب افريقيا لكن قناعتي أن المسألة أكبر من مجرد استلطاف و"كيمياء شخصية" قناعتي أن رئيس مصر الجديدة يريد أن يؤسس لعلاقات خارجية تقوم علي التوازن بين الشرق والغرب من أجل تحرير إرادة مصر ونفي تبعيتها وتقوم أيضاً علي المصالح المشتركة "الواضحة" والاحترام المتبادل دون إملاءات أو ضغوط .. وقد نجح بوتين في أن يقرأ هذا الأمر جيداً. ويتفاعل معه بروح إيجابية. لكن .. هل يمكن أن يصطدم هذا التقارب بمواقف مختلفة أو متناقضة للبلدين تجاه بعض القضايا الدولية والاقليمية .. خاصة فيما يتعلق بالملف السوري؟! الرئيسان بوتين ومرسي أجابا في المؤتمر الصحفي عقب المباحثات عن هذا السؤال بوضوح .. قال مرسي "الملف السوري حظي إهتمام كبير من كلا الجانبين في محاولة للتوصل إلي تسوية سريعة للأزمة .. وأنا أقدر وجهة النظر الروسية التي أري أنها قريبة من وجهة نظرنا .. وقد أكدت الأحداث ضرورة أن تنضم روسيا وأمريكا وقطر إلي المبادرة الرباعية التي اقترحتها من قبل للبحث عن حل للأزمة من مصر والسعودية وإيران وتركيا. وقال بوتين : نتفق مع مصر في ضرورة إيجاد حل سلمي وقانوني للأزمة السورية يحافظ علي وحدة سوريا دون تدخل خارجي .. ويدفع إلي مفاوضات بين الحكومة والمعارضة. فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي كان الاتفاق أسهل حول ضرورة إحياء المفاوضات لضمان حق الشعب الفلسطيني الكامل في سيادته علي أرضه ووحدة أراضيه في الضفة وغزة .. ورفض الاستيطان الإسرائيلي والعدوان المستمر علي المقدسات والممتلكات الفلسطينية. هناك أيضاً سؤآل آخر : ماذا تريد روسيا من مصر؟! لا شك أن روسيا الآن تريد صديقاً قوياً موثوقاً به في نظام ديمقراطي حديث بعد أن تهاوت كل الأنظمة الديكتاتورية وسقط كل الأصدقاء في منطقة المياه الدافئة ومركز التجارة في الشرق الأوسط .. وتريد بابا كبيراً إلي افريقيا والعالم العربي .. ولن تجد ذلك إلا في مصر التي وصفها بوتين بأنها الدولة المحورية التي لا يمكن أن يحدث شيء في العالم العربي والعالم الإسلامي إلا باستشارتها ورأيها. والروس يريدون أيضاً السياحة وضمان تأمين السائحين .. وفي هذا الصدد نشر موقع "سيفودنيا" الاخباري الروسي تحليلاً مهما تحت عنوان "لا شريعة في الفنادق" يطالب بمضاعفة كمية الخمور المسموح بها للسائح الروسي في مقابل مضاعفة حجم التبادل التجاري بين البلدين .. حيث يدمن السائحون الاسترخاء والشرب علي شاطئ شرم الشيخ. بقيت لدي ملاحظتان حول الزيارة .. الأولي تتمثل في احتفال الروس بمرور 70 عاماً علي تأسيس العلاقات المتميزة بين البلدين في عام 1953 .. وقد أشار الرئيس بوتين إلي ذلك أكثر من مرة بما يعني أنهم يعطون للعلاقات مع مصر أهمية كبيرة بينما تمر هذه الذكري عندنا بلا اكتراث. الثانية أوجهها للاخوان والسلفيين وغيرهم .. وتتمثل في أنه ليس صحيحاًَ أن كل ما فعله عبدالناصر في الخمسينيات والستينيات كان ظلاماً وفساداً .. وقد أشار الرئيس مرسي في حديثه لصحيفة "روسيسكا جازيتا" الذي نشرته الخميس الماضي إلي أن "الرئيس عبدالناصر بذل جهوداً ضخمة في الماضي لتعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفيتي مما كان له ثمار ملموسة. علاقات الدول تقوم علي المصالح المشتركة وليس علي التطابق والتماثل الايديولوجي أو الديني .. وعلينا ألا نشغل حاضرنا بمحاربة الماضي وإنما بتصحيح الماضي وفرزه لننطلق منه إلي المستقبل .. قضيتنا الآن ليست أخطاء عبدالناصر والسادات ومبارك وإنما ماذا نفعل لكي لا نقع في الأخطاء نفسها. إشارات : * عندما يصبح شعار الثوريين الجدد "الفوضي هي الحل" فلابد من وقفة جادة .. ليس من الشرطة وحدها وإنما من كل من يخاف علي هذا البلد. * ليس هناك أدني مشكلة في أن يدلي الرئيس محمد مرسي بشهادته أمام المحكمة في قضية اقتحام سجن وادي النطرون وهروب السجناء والمعتقلين منه أثناء أحداث الثورة .. فسوف تكون هذه بادرة تاريخية تضاف إلي رصيده وتكسر هالة الفرعون في مصر .. خصوصاً أن الدكتور مرسي هو الذي بادر بالاتصال بقناة الجزيرة وأبلغ عن واقعة الاقتحام وأعلن أسماء أعضاء مكتب الارشاد المحبوسين معه .. وطالب بأن يتصل بهم أحد من الدولة لايجاد تصرف قانوني. * سوف يذكر التاريخ أن الفريق السيسي ورفاقه من قادة قواتنا المسلحة كانوا أكثر وطنية وشرفاً من أولئك الذين دعوهم وحرضوهم علي الانقلاب ضد الشرعية والديمقرطية .. وكانوا جديرين بأن يكونوا خير خلف للمشير طنطاوي ورفاقه الذين حفظوا دماء المصريين من أن تسال في الشوارع أثناء الثورة "عظيمة يا مصر بأبنائك الكبار .. الكبار".