إذا كانت كتابات عصرنا تتميز بتعدد الأنوع. فإن الناقد والأستاذ الجامعي د. مدحت الجيار أخلص - منذ بدايات حياته العلمية - للنقد. يتابع الابداعات. ويتعرف إلي المدارس العالمية. ويبلور لنفسه - في الساحة النقدية - وجهات نظر. قلنا: من وجهة نظرك كناقد.. ما تأثيرات الثورة علي الإبداع؟ قال: رأيي أنه لم يظهر تأثير للثورة علي الكتابة بوجه عام. باستثناء الكتابة الصحفية التي تقف مع الثورة. أو تقف ضدها. أما الإبداع الأدبي فما زال يتداخل تداخلاً صناعياً. بمعني أنه يستكمل بعض الكتابات القديمة بمشهد من الثورة. وكأن التاريخ يتواصل فيما بين قبل الثورة وبعدها. في حين تظل الكتابة نصف قديم. ونصف جديد. لهذا نحن في انتظار الكتابة الجديدة التي تستوعب تفاصيل الثورة المصرية. حتي يخرج الأدب الجديد المصور للثورة. قلنا: ظهرت كتابات جديدة تخطت الأنواع الأدبية المعروفة.. ما أسبابها في تقديرك؟ قال: الحقيقة ان هناك تطوراً عاماً في الأدب علي مستوي العالم. وعندنا تتحول كل كتاباتنا إلي النثر والسرد. بمعني انه كان وراء ظهور ما سمي بقصيدة النثر. وما سمي بالمسرواية. والكتابة غير النوعية. وكتابات الخيال العلمي. والكتابات المستقلة.. كل هذه الأنواع بدأت في أقطار الوطن العربي قبلنا. ثم جاءت إلي واقعنا الأدبي عبر الترجمة. ومنها إلي التأثير المباشر للكتابة. ومن هنا تفرعت الكتابات الشعرية والدرامية والسردية. لقمة عيش قلنا: هل نتحدث عن النقد الأكاديمي وعلاقته بالحركة الثقافية؟ قال: بالنسبة لنقاد الأدب فهم جماعات متعددة. تبدأ بالناقد الصحفي الذي يغطي كتابات جديدة. ويكتب رأيه بذائقته الخاصة. وهناك الناقد المتخصص خارج أسوار الجامعة. وهو ناقد محترف. قارئ. مثقف. يختلط بالناس. يعيش مع الكتاب. ويعود إلي النص ليحلله بالمفهوم العام للنقد. كما استمع إليه من الكتاب أو في الندوات. ويتحول النقد بالتالي إلي لقمة عيش. مما يدفع الناقد إلي الإلحاح علي المشاركة في أي نشاط يجذب له مالاً. وهذا الناقد لا يتطور أبداً. لانه تابع. ولا يحب ان يتغير. لأن التغيير بالنسبة له ضياع الصيغة التي فهمها. وأحبها. لكن يظل الناقد الأكاديمي هو محط الأنظار. لأنه يقوم بعدة وظائف داخل الجامعة. فيدرس النقد الأدبي للطلاب. ويشرف علي جماعات الأدب في مراكز رعاية الشباب. وقادر علي ان يقدم الأصوات الجديدة بمقدمات لما يصدر لهم من كتب. هذه هي الوظائف الرئيسية للناقد الجامعي. لكنه ينقسم الآن إلي قسمين: قسم يحافظ علي الوظيفة. فهو يتوقع داخل قاعات المحاضرات ليؤلف الكتب النظرية والتحليلية بما تعلم من مناهج النقد الأدبي. لكنه يظل حبيس الوظيفة. وحبيس أسوار الجامعة. وهذا الناقد يفشل - باستمرار - في التأقلم مع الحياة العامة. أو يمارس النقد عبر التجمعات الأدبية في ندوة أو جمعية أو نقابة أو مؤتمر وما شابه ذلك. لأنه لم يتعود ان يخالفه أحد في الرأي. ويكتفي بالحديث إلي طلاب أقل منه معرفة. فيستسلمون له بالسمع والطاعة. ليتمكنوا من اجتياز الامتحانات. أما النصف الثاني من نقاد الجامعة. فهم من يستطيعون الخروج إلي الحياة العامة. بعد ان نهلوا من ثقافات متعددة. وتحاوروا مع كل التوجهات السياسية والاجتماعية والأدبية. وأصبحوا قادرين علي الحكم علي النصوص الأدبية. وينعكس ذلك في دورهم داخل الحياة الثقافية. فضلاً عن قدرتهم علي التطوير الدائم لمناهج النقد الأدبي. وثمة الناقد الشنطة الذي يستمع إلي كلام النقاد مثل الطلاب في الجامعة. ويكرر ما يستمع إليه علي نص مشابه. وربما ترتبط حركته بالحصول علي المال الذي يعينه علي حياته اليومية. قلنا: هل هناك أجيال من النقاد مثل أجيال المبدعين؟ قال: النقد الأدبي في مصر سلسلة من الأجيال. كل جيل يسلم الراية للجيل التالي. وتتسع الدائرة. ويكبر الجيل. وتتغير ثقافته بزيادة عدد النقاد. وزيادة عدد الطلب. خاصة في الدراسات العليا. وفي كل جيل فئة تتميز بالاصالة من ناحية. والتجديد من ناحية أخري فهي تهضم ما تعلمته من الأساتذة. ثم تضيف إليه موهبتها الخاصة. وخبراتها وتجاربها. معوقات قلنا: يلاحظ البعض تراجعاً لدور النقد الأدبي في مصر لصالح النقد لدي المشارقة والمغاربة.. ما رأيك؟ قال: هناك كتابات كثيرة تخرج أصحابها في الجامعات. ونالت اعترافاً أكاديمياً وثقافياً في المشرق والمغرب. ولعلي أشير إلي حامد أبوأحمد وسيد البحراوي وأمينة رشيد ومدحت الجيار وزينب العسال وفريال غزول ومحمد بدوي. وهناك مجموعة أخري من الجيل التالي. تعمل الآن. وتحاول ان تسد الفراغات الناتجة عن تحلق النقاد في شكل جماعات منغلقة. ومن المهم ملاحظة هجرة النقاد المصريين - بالعشرات - للاعارة في دول البترول. كما يجب ملاحظة افتقار البحث العلمي والتعليم والثقافة للموارد الاقتصادية التي تمكن من الدراسة. بالاضافة إلي المنح العلمية. والسفر إلي الدول المتقدمة. وعمل التدريبات داخل الجامعة وخارجها. واللافت أيضاً ان الدوريات العربية تضع المكافآت الكبيرة التي تجذب شباب النقاد. مما يقلل انتاجهم في الدوريات المصرية. أشير كذلك إلي ملاحظة طريفة - ومؤسفة - هي أنه أية دراسة لا تستطيع ان تصل إلي منزلها في موعد مناسب بسبب أزمة المواصلات. والمعوقات بلا حصر في الجامعات الاقليمية. بحيث يمكن القول إننا نحتاج إلي صحوة في الجامعات. وفي الأدب. وفي النقد الأدبي والبحث العلمي. قلنا: أخيراً. لماذا فقدت الجوائز المصرية بريقها؟ قال: الإشراف علي المسابقات. وتحكيمها. يتعرض لعاصفة كبيرة بسبب الشللية التي تسيطر علي الجوائز في مصر والوطن العربي. لو اننا نشرنا أسماء المحكمين في جوائز الدولة. أو جوائز الافراد. أو المؤسسات غير الحكومية. سنجد ان الاسماء هي هي. ومن ثم يتحول المحكمون إلي سلطة ثقافية قادرة علي المنح والمنع. وربما دخلت أمور الجائزة في العطف علي المرضي. أو العطف علي أبناء المتوفين. أو التحكيم فيها بالأجيال الأقدم. فالأحدث. بصرف النظر عن القيمة التي يحتفظ بها الكاتب بنفسه. وهذا الأمر أفقد الكاتب المصري المثقف الاحساس بالأمان أو الموضوعية تجاه هذه الجوائز. فمن العجب ان تعطي لعالم عظيم في علم الاجتماع. لكنه ينالها في أدب الأطفال. وتعطي جائزة الدولة التقديرية لكاتب ارشيفي كل مادته من ارشيف الوزارات والمحافظات. وهناك من لم نسمع عنهم ممن يحصدون جوائز التفوق والنيل والتشجيعي. وكل التعديلات التي تمت علي طرق التحكيم اثبتت فشلها. لأن الدائرة كما هي. والمجموعات كما هي. تري: هل تعود وزارة الثقافة إلي عقلها. كما كانت أيام الفرسان الأوائل؟!