"البؤساء" رواية تاريخية فرنسية يعتبرها النقاد أهم وأعظم الأعمال الأدبية في تاريخ الأدب الروائي.. ومنذ أن ظهرت الرواية في طبعتها الأولي عام 1862 حققت انتشاراً وشهرة واسعة وحقق مؤلفها الفرنسي فيكتور هوجو مكانة وشهرة عالمية عظيمة. أهمية "البؤساء" لا تعود إلي لعنها لمناخ القرن التاسع عشر في فرنسا وتصوير الاحداث التاريخية التي ألقت الضوء عليها ابان الفترة من "1815- 1832" وانما إلي معالجتها الملحمية الجذابة لقضية جوهرية في حياة البشر ألا وهي قضية العدالة وجوهر القانون. يشير المؤلف ضمناً إلي السياسات الاقتصادية التي كانت سبباً في انتشار البؤس والفقر في فرنسا القرن التاسع عشر والتي جعلت الأرض جحيماً لعامة الناس بينما قلة محظوظة تعيش في النعيم. ولا تشعر بألم أو معاناة الآخرين. من بين الأحداث المهمة التي تتضمنها حادثة الثورة التي قام بها مجموعة من الشباب في باريس ضد النظام الملكي والجيش الفرنسي بعد موت لامارك الزعيم الفرنسي الذي يعتبر السياسي الوحيد الذي كان يتعاطف مع الطبقة العاملة ويتفهم أوضاعها. حكايات عديدة وموجعة ومؤثرة عن الحب والفراق وعن الأسرة والأحلام المجهضة للفرد والظلم البين الذي يمارس علي البشر باختلاف معدنهم.. هناك أيضاً بورتريهات ممتدة من النماذج البشرية الأصلية والمزيفة وتصوير لسلوكياتهم الفظة والفاسدة منذ ظهور رواية البؤساء ونجاحها الكبير تم اقتباسها للمسرح مرات وللسينما والتليفزيون بأساليب مختلفة وآخر الأعمال المقتبسة عنها. الفيلم المعروض حالياً في القاهرة. "البؤساء" عمل ممتع بالفعل وضخم انتاجياً ينتمي إلي نوعية الفيلم الموسيقي من دون الشكل التقليدي لهذه النوعية. لا توجد أغان بالمفهوم المتعارف عليه ولكن حوارات ومونولوجات نثرية مغناة.. فالشخصيات فرادي أو جماعات تغني أوجاعها ومعاناتها الداخلية مباشرة وبأصواتها الخام من دون تدخل تقنيات الاستوديو والتسجيلات التي تصقل الصوت أو تجمله.. فالعواطف المشوبة والحزن ومشاعر المهانة والظلم يتم التعبير عنها بأداء للكلمات منغم بلا رقصات فقط باللغة الجسمانية وتعبيرات الوجه والتنظيم الصوتي. فالحركة هنا عنصر عولج من خلال رؤية تمنحها عفوية ومصداقية. المشهد الأول من الفيلم يصور مجموعة المساجين بينما يمارسون واحدة من الأعمال البدنية الشاقة التي تتطلب جهداً وكفاءة جسمانية.. يظهر وسط هؤلاء المساجين الشخصية المحورية جان فالجان "هيو جاكمان" الذي يقدم تجسيداً بصرياً لافتاً لقدرته علي الأداء. وعلي لياقته وقوة أدائه. قضية جان فالجان تمثل الخيط الرئيسي في هذا العمل فهو اللص الذي سرق رغيف خبز وحكم عليه بقضاء 19 سنة في السجن مع الأشغال.. منها خمس سنوات عقوبة عن جريمة السرقة و14 سنة عقاباً لمحاولات الهروب المتتالية. الصراع الأساسي الذي يمتد حتي قرب نهاية الفيلم بين هذا اللص المدان الذي أمضي العقوبة وخرج إلي العالم معدماً تماماً وبحرية مشروطة واقامة محددة وبطاقة شخصية بلون محدد يشير إلي كونه سجيناً سابقاً الأمر الذي يغلق جميع أبواب الرزق في وجهه. رجل بلا روح الصراع بين هذا اللص وبين المفتش البوليسي جافير "راسيل كرو" الذي يتولي تنفيذ القانون.. رجل بلا روح. متحجر العواطف. جامد التفكير. صارم يطبق القانون ميكانيكيا بلا فهم أو أبعاد إنسانية صراع يمكن قراءته علي عدة مستويات. أيضاً تجربة جان فالجان الصعبة ولكن الثرية والمتنوعة تضعنا أمام مباراة بين الرحمة والعدالة وجوهر القانون وبين التطبيق بين القوي الشريرة والقوي الطيبة بين الضحية والجلاد. بين المجرم والشرطي المستعد ان يصبح كلباً مسعوراً للانتقام. التجربة أيضاً تقدم درساً في الغفران. في معني الدين والرحمة والمثل الأعلي الذي يجسده رجل الدين في الكنيسة والذي شهد لصالح اللص فالجان وقد غفر له جريمة السرقة. ومنحه أواني الفضة التي سرقها وأضاف عليها شمعداناً ثميناً حتي يبدأ حياته ويشق طريقه كرجل شريف والمهم انه أعفاه بهذه الشهادة من عقوبة أخري سوف تدخله السجن من جديد. مخرج الفيلم توم هوبر "40 سنة" بريطاني حاصل علي جائزة الأوسكار عن فيلمه "خطبة الملك" يقدم اقتباساً سينمائيا عن التجربة المسرحية الموسيقية التي شاهدها 60 مليون متفرج في 42 دولة ب21 لغة حول العالم حققت أعلي الايرادات وفيلم "البؤساء" مرشح للأوسكار "2013" ويلعب بطولته الممثل جون جاكمان الذي يجسد شخصية جان فالجان ويرسمها بالأداء الصوتي التعبيري المنغم الذي يتطلب جهداً وحساسية في تصويره لحياة البطل وتجربته الفريدة في فصولها وأبعادها المختلفة. تعتمد قصة "البؤساء" علي حبكة رئيسية وعدد من الحبكات الثانوية وتصور خيوطاً عديدة تشابكت وتفاعلت مع حياة البطل الرئيسي وعزيمة المبين الأبدي جافير. من بين الحكايات قصة العاملة الشابة "فانتين" "آن هاثاواي" التي جسدت دور المرأة البائسة المسحوقة التي اضطرت إلي بيع شعرها وأجمل اسنانها من أجل ان تدفع تكاليف ابنتها الصغيرة "كوزيت" التي تركتها مع أسرة استغلتها وأساءت معاملتها. جان فالجان يتبني "كوزيت" ويقوم بتربيتها وتعهد لأمها قبل وفاتها ان يرعاها. الحكايات الفرعية لا تقل جاذبية عن القصة الرئيسية.. وقصة الثورة وأبطالها الشباب وتمردهم ضد السلطة وضد الجيش الفرنسي تستدعي بعض ما جري للشباب المصري في ثورة 25 يناير. تغلف الفيلم نزعة حميمية جداً في بعثه للشخصيات ونسج العلاقات بينهم ونقل المعاني وأشكال الصراع متعدد الألوان في فترة تاريخية وظروف اقتصادية طاحنة وتحت حكم ملكي ظالم مثلما تعتبر ترجمة فنية ممتعة للرواية وطبعة سينمائية منها تستحق المشاهدة. من أجمل الشخصيات والحكايات التي عالجها فيلم "البؤساء" صورة الشارع وجموع الناس والشاب الثوري الثائر "انجولارس" الذي قاد التمرد الذي حدث في يونيو 1832 وتأثير موت الجنرال "لارماك" الزعيم الفرنسي الوحيد الذي تعاطف مع طبقة العمال. وحرك موته مشاعر العامة من الشعب الفقراء. وصبية الشوارع التي كان يمثلهم الصبي الظريف جداً "جافروس" ابن الأسرة الفاسدة صاحبة "الخان" الذي عاشت فيه "كوزيت" وعوملت بقسوة. و"كوزيت" نفسها صورها المخرج في طفولتها وشبابها في صورة قريبة جداً من القلب وشخصيات آسرة. أيضاً قصة الشاب "ماريوس" الثائر ابن الطبقة الثرية الارستقراطية الذي انضم الي الثوار ووقع في غرام "كوزيت" وتزوجها ولن يخزل مشاعر الفتاة "انتونين" الذي أحبته أيضاً ولكن من طرف واحد مات دون ان تحقق حلمها. يرسم المخرج في هذا الفيلم الفاتن صورة لحالة الأمكنة التي جرت فيها أحداث هذه الثورة معتمداً علي الأوصاف الدقيقة التي جاءت في رواية فيكتور هوجو التي تقع في 1500 صفحة.. فالرواية اكتسبت عظمتها وخلودها من تصويرها الصادق الخلاق للواقع الذي تعالجه. استحضر مخرج الفيلم صور البنية التحتية لشبكة الصرف الصحي الذي استخدمها جان فالجان في الهروب بالشباب الثائر "ماريوس" وذلك من خلال مشهد مطاردة غريب.. مشاهد المطاردة تكررت كثيراً في هذا الفيلم. الفيلم طويل "157 دقيقة" ويتضمن تفاصيل بصرية مما يمنح الفيلم زخماً روائياً. ومادة بصرية مثيرة للفضول وفي النهاية يعتبر مثل عشرات الروائع السينمائية اعتماد السينما علي الأدب الروائي وعلاقتها الحميمة منذ بداية اختراع الصور المتحركة بهذا النوع من الابداع.