لا شك أن العلاقة بين "السياسة" و"الاقتصاد" كالعلاقة بين الروح والجسد. وإن كان البعض يري أن الاقتصاد هو الذي يحرك السياسة فإن آخرين يرون أن السياسة هي التي تحرك الاقتصاد والحقيقة التي يشهد الواقع بها ولها في مصر والعالم كله أن كليهما يؤثر في الأمر تأثيراً مباشراً أو غير مباشر بغض النظر عن البداية فقد يتسبب قرار أو وضع سياسي في نمو اقتصادي أو العكس وقد يتسبب قرار أو وضع اقتصادي في استقرار سياسي أو اضطراب وثورة. المؤكد أنه لا يمكن الفصل بين الجانبين أبداً باعتبارهما أهم تحركات الحالة موضع أو موضوع الدراسة في أي مكان وزمان. فإذا كان الوضع الاقتصادي في مصر قبل الثورة مثل الأرصفة الملائمة لانفجار الثورة فإن الوضع السياسي في مصر بعد الثورة يمثل المؤثر الأكبر علي الوضع الاقتصادي. ضمن عوامل أخري كثيرة بالطبع. هذه العلاقة بين ماهو سياسي وماهو اقتصادي كانت موضوع تقريرين مهمين نشرتهما جريدتان دوليتان مهمتان هما ال "فانينشيال تايمز" البريطانية و"واشنطن بوست" الأمريكية أخيراً وكلاهما له أهمية حيث نتعرف من خلالهما علي رؤية أوروبا وأمريكا لما يجري في مصر الآن ولو علي سبيل الاجمالي ومن الضرورة بمكان أن نتعرف علي رؤية الآخرين لها لأن ذلك أصل من أصول العلاقات الدولية سواء كانت سياسية أم اقتصادية أم غير ذلك. قالت ال "فاينانشيال تايمز" إن الحكومة المصرية تحاول جاهدة تهدئة المخاوف المتعلقة بتردي الوضع الاقتصادي لمصر من خلال التقليل من المخاطر التي يواجهها الاقتصاد المصري وتؤكد في كل نهاية أن الوضع الاقتصادي في مصر صعب ولكنه لم ولن يصل إلي "الافلاس" الذي يتحدث عنه المعارضون للحكومة أو النظام. مشيرة إلي قول الرئيس محمد مرسي في خطابه أمام مجلس الشوري: "من يتحدثون عن افلاس مصر هم المفلسون". وتضيف الصحيفة البريطانية أن الحكومة المصرية تعتمد أساساً علي عاملين لتقليل المخاطر الحالية التي يواجهها الاقتصاد المصري حتي يتسني لها التقاط الأنفاس وهما السعي للحصول علي منح أو قروض خارجية لتغطية جزء من عجز الميزانية ومواجهة بعض المتطلبات التي ينادي بها شعب يعيش 40% منه تحت خط الفقر واتخاذ اجراءات تقشفية كالتقليل من حجم الانفاق الحكومي ورفع الدعم عن بعض السلع والخدمات وهو مايؤدي إلي ارتفاع الأسعار مما يتسبب في زيادة حالة الثورة التي لم تهدأ في مصر رغم مرور عامين علي الثورة في 25 يناير 2011 خاصة بعد الهبوط الحاد في قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأخري وفي مقدمتها الدولار الأمريكي الذي سجل ارتفاعاً تاريخياً في الأيام القليلة الماضية. وتعقب الصحيفة علي ذلك قائلة إن هذه السياسات لا تختلف كثيراً عن تلك التي كانت تستخدمها حكومات مبارك المتتالية حيث لم تحل المشكلة بل زادتها تعقيداً أو اتساعاً فكانت النتيجة هي ثورة الشعب المصري ضد النظام فأسقطه وإن كان لم يسقط سياساته علي حد تعبير الجريدة. أما الواشنطن بوست فقد أشارت إلي نفس السياسات التي ذكرتها زميلتها البريطانية واتفقت معها في أنها سياسات قديمة قد لا تحل المشكلة ولكنها التمست العذر للحكومة المصرية باعتبار أن الاعتماد علي القروض من جانب والتقشف من جانب آخر قد يكون فعلاً كما قال رئيس الوزراء هشام قنديل الوسيلة الوحيدة للخروج من الأزمة في الوقت الراهن. أضافت الصحيفة الأمريكية أن القرض الذي تسعي الحكومة المصرية للحصول عليه من صندوق النقد الدولي لن يغطي عجز الميزانية الذي يصل إلي 6.21 مليار دولار ولكنه قد يفتح الطريق أمام مصر للحصول علي قروض أخري باعتبار موافقة الصندوق علي هذا القرض شهادة دولية علي قدرة الاقتصاد المصري علي الوفاء بديونها وخدمتها. ذكرت الصحيفة كذلك أن انخفاض سعر الجنيه المصري أمام الدولار سيؤدي تلقائياً لارتفاع الأسعار. كما أن الاجراءات التي اتخذها أخيراً البنك المركزي للحفاظ علي ماتبقي من احتياط النقد الأجنبي سيؤثر لا محالة علي التصدير والاستيراد وهو ما سيصوب حتماً في حالة ارتفاع الأسعار. وواضح من التقريرين اللذين عرضناهما باختصار أن أمريكا والغرب كليهما يريان مصر في حالة أزمة اقتصادية حقيقية لا يمكن انكارهما ولكنهما لا يقدمان لنا حلولاً وهذا ليس دوافعهما علي أية حال وإن كان مجرد التصنيف في حد ذاته شيء مهم للغاية. الأهم مما سبق أن هذه الرؤية تغني ببساطة أن أمريكا وأوروبا وانهما ليس لديهما حلول تساعد مصر بها. بل إن هذه الرؤية تعكس دون شك تردد الطرفين عن مساعدة مصر بفرض انهما يملكان ذلك لأن الغرب عموماً لا يقدم مساعدات لدول فاشلة اقتصادياً أو يحتمل أن تدخل في هذا الاطار حفاظاً علي مصالحها ومصالح دافعي الضرائب فيها وبالتالي فإن التعديل عليها أو علي المؤسسات التمويلية التي يتحكمون فيها يصبح رهاناً خاسراً أو علي الأقل ليس مضموناً بالمرة. يضاف إلي ذلك أن مساعدات الغرب عموماً مشروطة دائماً بشروط سياسية واجتماعية من شأنها أن تجعل أي نظام يخضع لها ويقبلها يفقد مصداقيته أمام شعبه خاصة إذا كان يعتمد في شرعيته علي ايديولوجيا أو مقولات عامة تتناقض مع هذه الشروط التي تستهدف فقط تحقيق المصالح السياسية والاستراتيجية فضلاً عن الاقتصادية لواضعيها. فإذا ما أضفنا إلي ذلك أن هذا الموقف الغربي يؤثر بدرجة أو بأخري علي كثير من الدول العربية الدائرة في فلك المنظومة الغربية تصبح لزاماً علي مصر. حكومة ونظاماً وشعباً ألا تراهن كثيراً علي مسألة المنح والمساعدات والقروض والودائع من أطراف أخري وأن تبحث عن حلول مصرية للخروج من الأزمة. وربما يكون الطريق الوحيد الآمن للخروج من الأزمة الحالية أو علي الأقل الاحتفاظ بها عند مستوياتها الحالية دون تدهور هو العودة بأسرع ما يمكن إلي "وحدة الصف" التي عايشها الجميع في التحرير منذ اندلاع الثورة حتي سقوط مبارك لأن وحدة الشعب والنفاق حول حكومته ونظامه الحاكم المتصارح المتصالح معه سيضع الجميع أمام مسئولياته وأولها تقليل حجم المطالب وتحمل بعض الأعباء وثانيها حشد كل العقول والخبرات المصرية من مختلف الاتجاهات لوضع خطة وطنية للخروج من الأزمة الراهنة ثم الالتزام بتنفيذها وهو مايعني أن المفتاح الآن في السياسة لا غيرها. إن أي محاولة للخروج من المأزق الذي تعاني مصر منه الآن في ظل الانقسام والصراع وافتقاد الثقة بل والعداء. ستكون محاولة فاشلة وسيدفع الجميع من ذلك غالياً إن عاجلاً أو آجلاً والمؤكد أن النظام الحاكم ومؤسساته يتحمل المسئولية الكبري عن ذلك باعتباره من يملك زمام المبادرة فهل يعي النظام ذلك فيدعو إلي مصالحة وطنية من خلال تسوية سياسية يعقبها مؤتمر اقتصادي وطني يضع خطة للخروج من الأزمة الاقتصادية أم ستبقي هكذا في حفرة الاستقطاب والاقصاء حتي يسود الوضع أكثر مما هو عليه؟