يتملكني الكثير من العجب لما أراه من ضآلة الاهتمام العام بالأزمة الاقتصادية التي تواجهها مصر الآن, والتي يتوقع تفاقمها بشكل تصاعدي في الأشهر المقبلة. صحف الصباح تصدر كل يوم حاملة أنباء من كل لون وتصريحات حكومية وغير حكومية حول الأوضاع السياسية والانتخابات ووثيقة الدكتور السلمي ومواقف القوي السياسية منها, والحالة الأمنية والاحتجاجات في مدن مصر إلي غير ذلك من موضوعات وقضايا وأحداث في طول البلاد وعرضها, ولكنا لا نجد إلا القدر اليسير عن حالة الاقتصاد الوطني, لا نكاد نجد ما يشير إلي أن الحكومة لديها برنامج للخروج من عنق الزجاجة في هذه الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تواجهها البلاد. لعل أخطر ما يتعرض له الاقتصاد الوطني هو الفارق الكبير الذي يزداد اتساعا بين الايرادات والمصروفات واضطرار الحكومة إلي استخدام احتياطي البنك المركزي الذي كان نحو أربعة وثلاثين مليار دولار منذ عدة أشهر, فأصبح الآن نحو اثنين وعشرين مليارا, حيث تقتطع الحكومة من هذا الاحتياطي نحو مليارين في كل شهر يذهبان في بند المصروفات العامة وليس في بند الاستثمار. وبالتوازي مع السحب الذي جري ويجري من احتياطي البنك المركزي فإن عجز الميزانية للعام المالي الحالي يبلغ مائة وأربعة وثلاثين مليار جنيه وتضطر الحكومة والبنوك إلي رفع سعر الفائدة لتجتذب الأموال المودعة في البنوك لشراء أذونات الخزانة لتمويل هذا العجز. من ناحية أخري, فإننا لا نري إلا تصريحات متضاربة عن اعتزام الحكومة الحصول علي قروض ومنح من صندوق النقد الدولي وصندوق النقد العربي. ويحدث ذلك دون أن نسمع شيئا عن الأسباب التي تدفعنا إلي الاقتراض من الخارج, كما لم تقل لنا الحكومة شيئا عن الأسباب التي جعلت المؤسسات المالية الدولية المعنية تضع مصر في مركز أدني مما كانت عليه من قبل في مؤشر القدرة الائتمانيةcreditworthiness وهكذا يغيب الاقتصاد القومي وما يجري فيه عن دائرة النقاش العام. رغم أن هذا النقاش هو الذي من خلاله يمكن للحكومة أن تطرح رؤيتها علي الشعب وتقنعه بوجوب الانتظار والصبر علي تحقيق مطالبه الفئوية. وأن لديها برنامجا مدروسا قد تم وضعه لتقليل المصروفات وزيادة الايرادات والخروج بالاقتصاد القومي من عنق الزجاجة. إلا أننا لم نسمع عن وجود مثل هذا البرنامج شيئا, وبات علي المهتمين بالشأن العام أن يلجئوا إلي التخمين فيما ستئول إليه الحالة الاقتصادية في البلاد في الفترة المقبلة. إن الحكومة التي تحتاج إلي مساندة الشعب لها وتفهمه للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد عليها أن تشرح للشعب لماذا وصل الدين, الداخلي إلي أكثر من تريليون جنيه وعجز الميزانية إلي عشرة في المائة, ولماذا تستمر في دعم غير المحتاجين بما في ذلك دعم الطاقة الذي وصل الآن إلي نحو تسعين مليار جنيه. إذا كانت الحكومة محتاجة إلي شرح سياساتها للشعب في الداخل فإنها محتاجة أيضا لشرح سياساتها للخارج فهي إذا كانت تراهن علي قدرتها في الحصول علي منح وقروض من الخارج فإنها ستكون محتاجة إلي اقناع الدول الأجنبية والمؤسسات المالية التي ستقترض منها بأنها قد أعدت مثل هذا البرنامج, وبالتالي فإن ما ستحصل عليه من قروض ومنح لن يكون لمجرد سد العجز لعام مالي واحد, بل سيكون لدعم جهود الحكومة في تنفيذ برنامج اصلاح اقتصادي شامل. منذ عدة أيام قرأت تصريحات لوزير المالية د.حازم الببلاوي عبر فيها عن عزوفه عن المطالبة باسقاط الديون المصرية, وذلك لأن هذه المطالبة ستكون بمثابة رسالة تعني أن مصر غير قادرة علي الوفاء بما عليها من ديون والتزامات وهو ما قد تتخذه المؤسسات المعنية لتصنيف مصر في درجة متدنية في مقياس الجدارة بالائتمانcreditworthiness والواقع أنني لم أجد نفسي متفقا في الرأي مع الدكتور الببلاوي, فالمطالبة باسقاط الديون لن تكون سببا في حد ذاته لوضع مصر في مركز متدن في مؤشر جدارة الدول بالائتمانcreditworthiness ولقد سبق لنا التقدم بطلب إسقاط جانب كبير من ديوننا وكان ذلك عقب حرب الكويت في أوائل التسعينيات في شطب أكثر من خمسة عشر مليار دولار دون أن يتأثر وضعنا من حيث جدارة الائتمان, وكان نجاحنا في ذلك راجعا إلي حد كبير إلي أننا تقدمنا ببرنامج مقنع للاصلاح الاقتصادي فالدول التي يطلب منها اسقاط الديون تريد دائما أن تقتنع بأن اسقاط ديونها سيكون جزءا من برنامج للاصلاح الاقتصادي وليس مجرد منحة تذهب إلي بئر بلا قرار. إن إعداد برنامج متوازن للاصلاح الاقتصادي سيكون ضروريا للحصول علي قروض ومنح من المؤسسات المالية الدولية والدول القادرة علي الإقراض أو تقديم المنح, وأذكر أن الفترة التي كان يجري فيها تنفيذ برنامج الاصلاح الاقتصادي في التسعينيات من القرن الماضي كانت أزهي فترات الاقتصاد القومي, وأمكن القضاء علي عجز الميزانية في ظرف عام أو عامين وتخفيض معدل التضخم تخفيضا كبيرا وتجميع نحو عشرين مليار دولار كاحتياطي في البنك المركزي في مدة عام واحد. وهكذا فإن ما نحتاجه اليوم هو التوصل إلي برنامج اصلاح اقتصادي قادر علي اقناع الشعب داخليا واقناع الدول والمؤسسات الدولية المعنية بأن مصر عندما تحصل علي منح أو قروض أو علي اسقاط جانب من ديونها, فإنها تفعل ذلك في إطار خطة اصلاح اقتصادي ستؤدي إلي القضاء علي عجز الميزانية, وسيكون ذلك في الأغلب عن طريق تعديل النظام الضرائبي بحيث تخضع الأرباح الرأسمالية للضرائب واتباع نظام الضرائب التصاعدية وتعديل أسعار الغاز الذي تصدره مصر بحيث تكون هذه الأسعار علي مستوي الأسعار الدولية, وأيضا عن طريق ضبط المصروفات وجذب الاستثمار. إلخ واستطيع أن أزعم أن وضع برنامج للاصلاح الاقتصادي قادر علي استقطاب التأييد من القوي السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر سيكون هو المفتاح نحو جلب تأييد ودعم المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة لنا. من ناحية أخري, فإن هذا البرنامج لو نفذ فإنه سيضمن أن تسلم الحكومة الحالية للحكومة القادمة التي ستفرزها الانتخابات المقبلة أوضاعا اقتصادية قابلة للبناء عليها, من أجل العبور إلي المستقبل الذي نريده لبلادنا الحبيبة.