يبدو ان نهر النيل سوف يظل هدفاً لكل من أراد أن يتخلص من أي مخلفات أو حيوانات نافقة. لم يرحم أهل مصر شريان الحياة من هذا العبث الذي ربما سوف يتحول بين فترة وأخري إلي مصدر للتلوث بصورة أكثر خطورة قد تهدد حياة الملايين علي ضفاف هذا النهر الخالد. عندئذ لن تستطيع أي أجهزة مهما تكن قوتها درء هذا الخطر. ولعل ما يجري هذه الأيام من مكافحة لبقعة الزيت.. أبلغ دليل. شبح هذه المخاطر يطل برأسه في بعض الفترات لكن العناية الإلهية كانت مصدر الهام لحماية أبناء هذا الشعب المكافح علي الأزمنة المتعاقبة ورغم زوال هذه المخاطر كل مرة يتعرض فيها لمثل هذا التهديد إلا أن ذلك يحرك مختلف الأجهزة المسئولة عن حماية النهر لاتخاذ التدابير اللازمة التي تحول دون تكرار هذه المخاطر. ومن يتأمل ضفاف نهر النيل من الجوب للشمال يجد أن القنابل الموقوتة حقيقة ماثلة.. المصانع تصب مخلفاتها. المساكن تتخلص من مياه المجاري في أقرب فرع لهذا النهر التي تنتشر كالشرايين في جسد الإنسان. وناهيك عمن يريد أن يتخلص من غريمه فما عليه إلا أن يلقيه في المياه. وكم رأينا من جثث تطفو علي سطح المياه وكنا نردد ونحن أطفال صغار "قرب يا طالب الدفن" وحينما كان يري أي عمدة أو شيخ قرية أي جثة كان يدفعها لكي تنتقل بعيداً عن زمام منطقته! هذه المخاطر تجسدت مع مطلع الأسبوع الماضي. فقد ظهرت فجأة بقعة زيت فوق سطح مياه نهر النيل بنطاق محافظة أسوان وتمتد إلي مسافة 5 كيلو مترات. هكذا بقدرة قادر ولم يعرف مصدر هذه البقعة التي غطت هذه المساحة الكبيرة في غفلة من الزمن. وبالتالي تم إعلان حالة الطواريء وقام مسئولو محطات مياه الشرب بغلق مصادر سحب مياه نهر النيل لمواقع التنقية وتخليصها من الشوائب والمواد الملوثة. وتم الاستعانة بالكميات المحتجزة من المياه داخل الخزانات المنتشرة في المناطق التي وصلت إليها بقعة الزيت. وقد أصيب المسئولون بالمحليات ومحطات المياه بالفزع كما امتد إلي الأهالي الذين كانوا يتابعون هذه التحركات بشغف وترقب. ورغم مرور حالة الطواريء ألا تحرك بقعة الزيت أو السولار كما انتهت إليها آخر معلومات مختلف الأجهزة عمليات تفتيت هذه البقعة مضت ثقيلة بطيئة مثل حركة مياه النيل وظلت أجهزة محافظة أسوان في حركة دائمة ليل نهار ولم تفلح في التخلص منها بصفة نهائية. استمر زحف "السولار" حتي تجاوز حدود محافظة أسوان وظلت جهود التفتيت مستمرة حتي الوصول لمحافظة الأقصر. عمليات الاحتواء تسابق الزمن لكن الزحف استمر حتي محافظة سوهاج. في حركة لم تعرف التوقف أخذت شركة مياه الشرب والصرف الصحي في تنفيذ البرامج الخاصة للتعامل مع آثار البقعة التي أربكت الأجهزة في 3 محافظات. كما تم إغلاق محطات المياه بمراكز دار السلام والبلينا وجرجا وتم تشغيل محطات الآبار الارتوازية. كما تم الحصول علي كميات من مياه النيل وتحليلها للوقوف علي نسبة التلوث. لم تتوقف جهود المكافحة وفي هذا الإطار فقد أجري الدكتور يحيي عبدالعظيم محافظ سوهاج اتصالاً تليفونيا بالدكتور مصطفي حسين وزير البيئة وطالبه بضرورة تقديم الدعم الفني للمحافظة لشفط بقعة السولار المتراكمة أمام الحواجز الاسفنجية والخراطيم وغيرها من المواد التي تم وضعها أمام مآخذ المياه السطحية علي نهر النيل وعددها 9 محطات منتشرة بمراكز المحافظة الواقعة علي جانبي نهر النيل. هكذا أربكت هذه البقعة 3 محافظات ووزارة ومع كل هذه التحركات إلا أن آثار التلوث تنتشر في المياه وتبذل شركات البترول جهودها من أجل الانتهاء من كل هذه الأجزاء المتناثرة واتخاذ التدابير لمنع زحفه نحو حدود محافظة أسيوط. كما يجري إعداد التقارير منذ بدء ظهور هذه البقعة شمال محافظة أسوان حتي انتقالها إلي الأقصر ثم قناوسوهاج. وترصد هذه التقارير مدي كثافة كمية الزيت المتراكمة فوق سطح المياه. بالإضافة إلي نتائج التحليل التي قد تؤدي إلي كشف مصدر هذه الزيوت التي انتشرت بهذه الصورة التي أثارت الفزع. وقد أشارت التقارير المبدئية إلي ان مصنع الورق هو مصدر هذه البقعة التي تسربت إلي النهر. وتشير تقارير أخري لمصنع السكر القريب من مصنع الورق. وسوف تتحدد بصفة نهائية المصنع المسئول عن هذا التسرب وذلك من خلال اللجنة التي قامت نيابة إدفو بتشكيلها من وزارة الصحة والري والبيئة والمسطحات المائية وذلك بعد إجراء المعاينات الخاصة بهذا الغرض. وربنا يستر إذ ربما تصل هذه الملوثات إلي مناطق أخري. بعد هذا الاستقصاء يتضح ان هذه المخاطر التي لاتزال آثارها ماثلة أمام الأعين لن تكون الأخيرة وانما سوف تتكرر في ظل تجاهلنا وعدم اتخاذ إجراءات حاسمة لمنع هذه المخاطر التي سوف تظل مصدر قلق لنا جميعا الأمر يتطلب وقفة حازمة وإنزال عقوبات علي كل من يتسبب في تلوث مياه النيل سواء من المنازل المطلة علي النهر أو المنشآت والمصانع.. ان لم نتحرك لدرء هذه المخاطر فإن الكارثة سوف تنفجر في أي لحظة. لكن متي نفيق من هذا السبات العميق وحينئذ لن يفيد البكاء علي اللبن المسكوب.