التجارة فن.. وبعض الناس يجيدون التجارة بكل شيء. حتي انتصارات الشعوب وتضحياتها وثرواتها.. وغالباً ما يبقي الأبطال الحقيقيون بعيدين عن الأنار والأضواء.. فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتر "وما بدلوا تبديلاً".. والأبطال المجهولون لحرب أكتوبر حتي الآن وبعضهم يعيش بيننا مازالوا صامتين.. فهم لا يملكون موهبة الثرثرة والاستعراض والوقوف علي أبواب ماسبيرو والفضائيات! ولدينا في الوسط الثقافي من أنعم الله عليهم بموهبة الحكي والقص والسرد والشعر. وهم من كل أشكال الكفاح الوطني براء! حتي أن أحدهم كان هارباً من الخدمة العسكرية أثناء حرب أكتوبر ولم يلبس البدل الميري أبداً! انبري أثناء الحرب يبدع قصائد مؤثرة في الوطنية. وحب مصر ومعاني الفداء. والفخر بمعجزة العبور التي حققها جنودنا في حرب أكتوبر! لكن فصيلاً آخر من الأدباء امتلك قدرات التعبير ولم تسمح سنه بالمشاركة في هذه الملحمة. إنهم الجيل التالي لأكتوبر من الشعراء والقصاص والروائيين وقد استعانوا بالقراءة والتواصل مع الأبطال الحقيقيين.. وأبدعوا ما تيسر لهم من فنون الأدب. ولا أحد يلومهم أو يتهمهم بالتقصير.. وإن كانت تهمة عجز الأدباء عن تصوير المعركة. مازالت تهمة جاهزة في أدراج وسائل الإعلام ومنمي الندوات الرسمية. يوجهونها كل عام في أكتوبر للأدباء!! علي الرغم من أننا "عملنا" لتحقيق نصر أكتوبر ست سنوات منذ هزيمة 1967 حتي أكتوبر 1973 وتحدثنا عنه حوالي أربعين سنة: شعراً أو نثراً وإذاعة وتليفزيونياً وصحفاً! فأين التقصير إذن؟! فئة ثالثة امتلكت التجربة والمصداقية والقدرة علي التعبير.. إنهم الأدباء الأبطال الذين شاركوا في الحرب. في مواقع شتي وعبروا عنها. ربما بعد سنين طويلة مرت علي تقاعدهم كضباط أساسيين أو احتياط. كما ذكر لنا أحمد محمد عبده وعبدالله الهادي ود.السيد نجم.. وكان من هؤلاء الأبطال من لم تتكشف له هو نفسه مواهبه الأدبية إلا بالصدفة.. فالمهندس القاص والروائي والشاعر أحمد ماضي. كان قائد سرية مهندسين ونجح في شق أول ثغرة في خط بارليف.. ومنذ حوالي عشر سنوات بدأ يتردد علي ندوة جماعة الجيل الجديد. وحكي شفاهياً حكاية هذه الثغرة وكيف تم فتحها.. فكان أن اقترح عليه البعض تسجيل هذه التجربة كتابة.. ثم نشرتها جماعة الجيل الجديد كرواية تحت عنوان "الممر" وكانت أول عمل أدبي له. ثلاثة من هؤلاء الأدباء الأبطال يتحدثون الآن عن دورهم في الحرب باقتضاب وعن تعبيرهم بعد ذلك بسنين عن هذه التجربة: شعراً ونثراً. * قال عبدالله الهادي: كنت أخدم بالقوات الجوية بمطار الدفرسوار أثناء الحرب. وأثناء الثغرة. سقطت قنبلة علي الملجأ الذي نتحصن به. لكن لم أكن داخله وقت القصف. ون زملائي أنني كنت داخله. وطبعاً القنابل الضخمة لا تترك أثراً يعرف للجسد البشري.. إنه يتفتت كالحصيان الصغيرة. وفي الوقت الذي أبلغ الزملاء عن فقدي كأحد الضحايا داخل الملجأ كنت مصاباً في مكان آخر بالقاعدة وتم نقلي إلي مستشفي عسكري دون علم زملائي. وبعد عدة أسابيع وتماثلي للشفاء عدت للموقع ففوجئ بي زملائي واحتفوا بي. وسمحا لي بالذهاب لمنزلي 4 ساعات لطمأنة أسرتي. عن هذا النصر الذي صاغه الشعب وجيشه العيم كتبت 16 قصيدة كان أولها "علي ضفة القنطرة" وتضمنها ديواني الصادر بعنوان: "باغني حياتي".. وآخر قصيدة كتبتها بعنوان: "مشوار الروح" وستنشر في ديوان تحت الطبع هو "طرح الخوف". يذكر أحمد محمد عبده أن ارتباطه بالكفاح من أجل تحرير أرضنا بدأ قبل حرب أكتوبر بسنوات. وتحديداً في اليوم الثاني لنكسة 1967. فقد رأي أباه يوم 6 يونيه وقد اتضحت معالم هزيمتنا يرفع حذاءه ويضرب به صورة "المشير" المعلقة علي الحائط. حتي تمزقت. بينما لت معلقة بجوارها صورة عبدالناصر ففهمت من تصرف هذا الرجل البسيط أنه يفهم السبب في النكسة كما فهمها سائر المواطنين.. وبعدها قررت الالتحاق بالجيش وكان ذلك في مارس 1973 وهبت الحرب بعدها بشهور.. وبعد فض الاشتباك الأول تقريباً في فبراير 1974 - عبرت بنا مركبة عسكرية إلي الناحية الأخري من القناة مروراً علي الكوبري الفل الذي كانت تعبر عليه مجنزراتنا أثناء القتال وداخل سيناء وفي الطريق إليها وجدنا معالم الشهداء وخاصة أحمد حمدي ومحمد زرد. ثم في الداخل ورأينا أسماء أبطالنا الذين دخلوها وقد سجلها كل منهم علي طريق مصر القديمة علي الحوائط المبطنة بالفورمايكا.. ومن مجمل هذه المشاهد التي خزنتها في ذاكرتي حتي عام 2001 كانت المجموعة القصصية الأولي لي "نقش في عيون موسي" علي الاستنزاف وحرب أكتوبر. ثم رواية "ثعالب في الدفرسوار" عام 2005 عن الحرب والثغرة. وفي عام 2010 كانت مجموعة "حالة حرب" عن مرحلة النكسة وأثرها علي الإنسان القرد وعلي المجتمع. ثم مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني. * د. السيد نجم: كنت أعمل طبيباً بمستشفي ميداني تحت الأرض. وكانت تجربة استقبال المقاتلين المصابين تتسم بالدهشة والغرابة والإعجاب في آن واحد.. مرت 72 ساعة علي بداية المعارك في 6 أكتوبر. ولم يصلنا أي مصاب في المستشفي الميداني. وصلتنا بعض الإصابات التقليدية ناتجة مثلاً عن وقوع صندوق ذخيرة علي رجل مقاتل.. وحينما بدأت معارك الدبابات تلقينا المشاهد المؤلمة والإصابات الخطيرة.. ورغم ذلك كنا نري الإيثار من الجنود.. فنجد جندياً مصاباً في فخذه يؤثر علي نفسية زميله المصاب في دماغه أو بطنه ويقول: زميلي أولي.. ونجد من يرفض الترحيل إلي مستشفيات القاهرة.. ويقول: لازم أرجع لزملائي وهو مضعضع الصحة!! ومن يجد في نفسه القدرة علي الحركة كان يشاركنا في عمل الإسعافات الأولية لزملائه الآخرين.. إن أقدس ماهر الإنسانية يجدها الطبيب المحارب في المعارك.. وقد وفت هذه الكنوز الإنسانية من التجارب من أعمال لي مثل "مجموعة أوراق مقاتل قديم" ورواية "السمان يهاجر شرقاً" ومجموعة "عودة العجوز إلي البحر" وتحديداً قسمها الثاني. وهناك رواية للأطفال بعنوان "الأشبال علي أرض الأبطال".. ورصدت بعض الدراسات النقدية لرواياتي. وخاصة روايتي: "أيام يوسف المنسي" و"الروح وما شجاها" وكذلك مجموعة "غرفة ضيقة بلا جدران". تسلل التجربة الحربية ومعارك أكتوبر إلي هذه الأعمال العامة.. سواء أكان هذا التسلل أو التأثير من خلال الشخصيات أو الأحداث. وأن أدب الحرب لدينا لم يقرأ نقدياً بدرجة كافية من التأمل والفحص حتي راجت مقولة: إن ما كتب عن التجربة الحربية في إبداعنا العربي لا يرقي إلي مستوي انتصار أكتوبر.. وهذا ما دفعني إلي إنتاج ستة كتب حول المقاومة وتجربة الحرب. وهي دراسات تنيرية مع بعض التطبيقات.