ساعة ونصف من الدهشة. من الألم والضحك. ومن الفرجة علي شرائح آدمية في رحلة حياة مقضي عليها لا محالة!! أكثر من 25 شخصية مصرية تشبهنا. وليست بعيدة عنا. فنحن منهم. ونحن جميعا في نفس القطار المتداعي الذي يتجه نحو مصير محتوم وإلي كارثة محققة! أحمد عبدالله مؤلف الفيلم الذي يحمل عنوان "ساعة ونصف" ووائل إحسان المخرج الذي سبق أن أدهشنا حين حول "الكباريه" و"الفرح" إلي عالمين مصغرين يختزلان في يوم واحد حياة مجتمع يئن بأوجاعه ويصخب بلهوه ويتحايل علي الدنيا بألاعيبه. زبائن هذه الأمكنة يصارعون شح الحياة في مجتمع يأكل بعضه ويحمل أسباب هلاكه. بعد "كباريه" و"الفرح" يأتي "القطار" لكي يقطع رحلة في ساعة ونصف تنتهي بمأساة كارثية. الأفلام الثلاثة فصول في دراما حديثة تعتمد في بنائها الفني علي الوحدات الكلاسيكية الثلاثة للمأساة الإغريقية القديمة وأعني وحدة المكان والزمان والحدث التي ابتكرها الفليسوف اليوناني القديم ارسطو "384 322 قبل الميلاد" وصارت قاعدة اعتمدها كثيرون من كتاب الدرما. وما يبدو مدهشا علي الجانب الفني أن الفيلم بهذا البناء "المنضبط" يقدم عملا جماهيريا شعبويا إذا صح التعبير بمعني أن مادته الموضوعية مستوحاة من أجواء شعبية خالصة لا تعتمد علي النخبة من أبناء الطبقة الراقية. ولا الأسر الميسورة وانما علي المطحونين في مفرمة مجتمع غابت عنه قيم العدل وانتشرت فيه البطالة. وتمزقت أواصر الأسرة بسبب كماشة الفقر والبحث عن مخرج منه "من الفقر". مادة الفيلم تقوم علي أبناء الشعب العاديين علي بشر ليسوا أعضاء في حزب ولا أصحاب ايدولوجية ولا هم منتمين إلي منظمات وليسوا من أصحاب الرتب ولا المقامات وليست لهم ميول سياسية.. فقط أناس يبحثون عن لقمة العيش والعلاج والأمن. الجميع من جذور ريفية. من جنوبالوادي. وهم في طريقهم إلي حيث يقضون أعمالهم أو يعودون إلي ذويهم أو ينفذون أحكاما. الجميع يتجهون إلي "المحطة" ليلحقوا بالقطار والمدهش مرة ثالثة أن العمل يتوجه إلي جمهور السينما الشعبيين ويبعث برسائله إليهم مستخدما لغة تعبر عن مزاجه وتفاصيل تعكس قدرة المؤلف علي الملاحظة وتكثيف الطبائع والقيم والسلوكيات المشتركة والتقاط النماذج الكاشفة علي النحو الذي يجعلها قريبة. الفيلم ليس مجرد إعادة إنتاج لحادث قطار العياط المأساوي الذي أبكي المصريين عندما احترق بركابه عن حادث موجع اثناء أيام مفترجة منذ سنوات وكادت أن يبتلعها النسيان.. ولكن المؤلف والمخرج حولا الفجيعة إلي موضوع أشمل يدفعنا إلي تأمل ما جري من جديد ويحلل ظروف المجتمع المتجه نحو هلاكه رغما عن إرادة معظم أبنائه. "ساعة ونصف" يؤكد أن "الثورة".. علي ما نراه وهو حقيقي مطلب لن يحقق حياة آمنة. سالمة عادلة. وإنسانية بدونها. الدراما في الفيلم قماشة عريضة تضم عينات داله من الطبقة المتوسطة. وما دون المتوسطة. والكادحة. وجميع هؤلاء من العاديين غير المحظوظين الذين يستهلكون أقراص الطعمية المقلية في الزيت المغلي! الفيلم يبدأ وينتهي بمشهد "المطحنة" أقصد الآلة التي تدهس الفول المدشوش ومعه خلطة الخضار والبهارات لعمل عجينة الطعمية. غذاء الشعب. حيث "الفول" مصدر الطاقة الغالب علي غيره من أصناف الطعام. حركة العمود الدائر أثناء عملية الطحن تصاحبها موسيقي لافتة لياسر عبدالرحمن. في تناغم واضح ومقصود يهييء المتفرج لما سوف يأتي. حركة ذات معني ومدلول درامي يدخل في صلب بناء الفيلم. ويضم مشهد البداية أيضا لقطات لأقراص الطعمية وهي تنتفض في "طاسة" الزيت الضخمة فوق النار. مع حركة اليد ترفعها داخل المصفاة ومن ثم تكون جاهزة لقوت المصريين الذين سوف نراهم حالا! بعد هذه البداية التي هي نفسها النهاية. تتوالي صور المصريين من كل فج.. لقطة لوجه سيدة عجوز بائسة تجلس وتلوك ربما بقايا ساندوتش" والوجه تم التقاطه من الشارع ليدخل ضمن شريط الحياة المعروض أمامنا فهي ليست ممثلة ولا أعتقد أنها واعية للكاميرا الأمر الذي يضفي علي الفيلم جواً من المصداقية الواقعية. فمن بين العناصر المهمة في هذا العمل اجتهاد صناعه والمشاركين في تمثيله والاعتماد علي العفوية أو الايحاء بها في أسلوب الأداء. ومن بين بداية الرحلة ونهايتها المهلكة داخل قطار الصعيد المتداعي بركابه الذين يشكلون البنية البشرية الأساسية في المجتمع المصري الذي وصل التباين بين قاعه وقمته إلي مستوي خطير ومنذر!! أقول بين البداية والنهاية تتوالي الشخصيات المهروسة أو بالأحري "المدهوسة" مثل عجينة الطعمية في "رحاية" الحياة الواقعية القاسية كحجر الصوان. نشاهد الأرملة التي تتشبث بالحياة وبقايا جمال يغرب "سوسن بدر" تلعب داخل شقتها التي تدل علي انتمائها للطبقة التي كانت متوسطة حين كان الزوج موظفا وبعد رحيله لم يترك لها سوي مكافأة الصندوق الاجتماعي. وهي علي وشك السفر بصحبة ابنتها الشابة "ايتن عامر" المتزوجة والتي تعاني من ضيق ذات اليد الاثنتان سنجدهما لاحقا ضمن ركاب القطار في رحلة للحصول علي مكافأة الصندوق! وعلي رصيف المحطة شاب "إياد نصار" يبيع كتاب "رسائل الحب" وهو عمل تافه لمؤلف ارزقي لحوح "أحمد الصاوي" يحثه علي ضرورة الإعلان عن الكتاب فوق الجدران. والاجتهاد في تسويقه بين ركاب القطار. وبائع "رسائل الحب" الذي ينتقل بين عربات القطار خريج جامعة عاطل لم يجد وظيفة ولم يرض أن يظل عاطلا ولديه مشرع زواج من المستحيل أن يكتمل. وخطيبة فقيرة تستميت لاتمام الزواج والمطلوب فقط حجرة نوم من العريس. بائع "رسائل الحب" الشقيان المحبط يلتقي في القطار مصادفة بزميل له قديم "أحمد عزمي" يعانقه دون أن يصدق أن هذا هو مصيره وكان طالبا نشيطاً ويساريا. و"رسائل حب" ليس عنوانا عشوائيا ولكنه يبعث برسالة لأن الحب بذرة تموت ولا يمكن أن تنبت في تربة الفقر والعجز والبطالة وغياب أسباب الحياة ومقوماتها.. فالمخبر الحكومي يتلقف البائع ويهدده إذا لم يدفع الاتاوة. والابن "عبده" الذي لا نراه يترك امه الطاعنة في السن "كريمة مختار" في انتظار حضوره وهو لا يأتي فقد تركها وفي يدها "رسالة" كتبها لمن سوف يقرأها للأم يرجوه أن يضع أمه في دار للمسنين فهو حسب ما نفهم من الأم عاطل وغلبان وليس له مصدر للرزق والأم مريضة وتحتاج إلي دواء لا يقدر عليه. البكاء في أحضان أم حين يقرأ بائع "الحب" الرسالة لا يصدق وأمام الأم وشكواها وتوسلها ينهار باكياً المشهد قد يبدو "تفصيلا" ولكنه كاشف في نهاية الأمر.. وقد نفذ بتلقائية وأداء طيع من أياد نصار وكريمة مختار. من بين الركاب أيضا طبيبة صعيدية "يسرا اللوزي" متزوجة من ابن عمها الأمي الذي باع قراريطه التي ورثها حتي تكمل تعليمها ثم يكتشف انه أصبح مجرد عامل داخل العيادة وأن الفارق بينهما فادح ولكنه يعود ويشعر بالفخر أمام قدرتها علي علاج مريضة أصيبت بغيبوبة داخل القطار. في القطار الشاب الذي عاش فترة في السويد "أحمد الفيشاوي" عاد ومعه صديقة سويدية ويتم القبض عليه بتهمة ارتكاب فعل فاضح في الطريق العام لأنه قام بتقبيلها ويصحبه الشاويش الريفي "ماجد الكدواني" مقيدا بالكلبشات.. بينما أمه "رجاء الجداوي" تنتظره مع المحامي ومعها ابنتها. وتلحق بهم الصديقة السويدية. ومن بين الشخصيات فتاتان "ناهد السباعي" وابنة سائق القطار وصديقتها الاثنتان يبحثان عن علاقات عاطفية ويتحايلان من أجل لقاءات "حب" مسروقة لا تتحقق ومن داخل احدي عربات شابان صديقان "كريم محمود عبدالعزيز. ومحمد رمضان" الاثنان عادا لتوهما من ليبيا واستقلا القطار إلي قريتهما وكل منهما لا يملك ثمن كوب شاب احدهما يموت في القطار ونكتشف أنه مسيحي في لقطة معه بينما والديه يستعدان لاستقباله علي رصيف المحطة "محمود الجندي. وأحلام الجريتلي". ثم بائع الشاي داخل القطار "أحمد السعدني" الذي يصحب ابنه الصغير اليتيم معه الأب يموت بعد كفاح بطولي من أجل ايقاف القطار وفصل عربته بينما السائق مشغول في مكالمة مع ابنته يعنفها علي سلوكها.. والصغير ينتظر الأب والدموع في عينيه. من الشخصيات أيضا الأشرجي البائس "أحمد بدير" الذي يقطن في حجرة إلي جوار رصيف القطار ويمضي الليل والنهار يطمئن علي سلامة "الفلنكات" بينما زوجته "سمية الخشاب" تخونه في لحظة ضعف مع واحد من لصوص حديد القضبان "محمد إمام" وفي أثناء الدفاع عن شرفه يتعرض للقتل! لصوص القضبان بدورهم يلجأون إلي هذه الجريمة عندما تضيق بهم الحياة وتنسد في وجوههم أبواب الرزق.. فهم ليسوا لصوصا محترفين ولا هم أشرار بالفطرة. بعض الشخصيات كان حظها أوفر في السيناريو المكتوب حيث منحها المؤلف وقفات طويلة بهدف اشاعة دقائق من الاسترخاء الكوميدي يبدد حالة الكآبة اذكر مشاهد أحمد الفيشاوي وماجد الكدواني كمثال. أحمد بدير جسد شخصية الموظف الصغير المطحون الذي يحادث نفسه كاشفا عن همه وأثقاله المادية العاجز عن مواجهتها.. المؤلف هنا استخدم حيلة "المونولوج في الدراما التراجيدية. المصور سامح سليم منح الفيلم لغة جمالية في مشاهد عامة وقريبة لن تتلامس فقط مع حاسة الابصار وانما نفذت إلي البصيرة وإلي التعبير الحي فقط من خلال الصورة ومن دون حاجة إلي حوار وكذلك الموسيقي لعبت دوراً تعبيرياً زاد من تأثير الصورة. اللغة المرئية في مجملها بدت موفقة وكذلك المؤثرات الصوتية والبصرية. كلمة أخيرة.. ليس كل ما ينتجه السبكي شغتا أعني فنا هابطا ولكنه كمنتج شاطر يعرف من أين يأكل جيب الجمهور.