تناولنا فى المقالين السابقين مسيرة الزراعة المصرية الفعلية خلال النصف قرن المنقضى (1965-2015) والمسيرة المتوقعة خلال النصف قرن القادم (2015-2065). وخلصنا إلى ان الفترة الأولى تنطوى على مؤشرات قوية تدل على تراجع مستمر فى مكانة ودور القطاع الزراعى الذى كان فى الستينات عمود الاقتصاد المصرى . وخلصنا أيضا إلى أن هذا التراجع لا يعزى فقط إلى نمو القطاعات غير الزراعية خلال الفترة ذاتها بمعدلات تفوق نظيرها للقطاع الزراعى وسياسات اقتصادية وأطر مؤسسية متحيزة رسخت هذا التباين فى معدلات النمو ، وإنما يعزى أيضا إلى الهشاشة الاجتماعية للقطاع الزراعى فيما يتعلق بضيق القاعدة الموردية الطبيعية المحدودة المتاحة للإنتاج الزراعى لاسيما الأرض الزراعية والمياه ، وثبات النمو فى هذين الموردين إما ثباتا نسبيا كما فى حالة الأرض الزراعية أو ثباتا مطلقا كما فى حالة المياه ، فى مقابل التزايد السكانى المستمر .وأسفر هذا التباين فى معدلات النمو السنوى بين السكان والموارد الزراعية عن تناقص مستمر بعيد المدى فى نصيب الفرد من الأرض والمياه حتى تدنى إلى 0.1 فدان من الأرض - وهو من أدنى الأنصبة العالم - و 600 متر مكعب سنويا من المياه – وهو يكاد يقترب من خط الفقر المائى المدقع (500 متر مكعب سنويا). أما فى الخمسينية القادمة (2015-2065) فقد أوضحنا أن القاعدة الموردية الزراعية ستكون أكثر ضيقا مع استمرار معدلات النمو المتباين فى السكان والموارد ومن ثم تدهور العلاقة السكانية الأرضية المائية ، وسوف يكرس تدهورها متغيران جديدان ، أولهما سد النهضة والتنافس على مياه النيل بين إثيوبيا والسودان من جانب ومصر من جانب آخر ، وثانيهما ظاهرة التغيرات المناخية التى لها تأثيرات سلبية على كل من المياه الوردة إلى مصر وكذا على الأراضى الزراعية فى الدلتا والصحراء.ومع بلوغ عدد السكان 160 مليون نسمة فى 2065 (بافتراض معدل نمو لا يتجاوز 1,2% سنويا) فإن نصيب الفرد من مياه النيل يتدنى حينئذ إلى 340 متر مكعب سنويا بافتراض أن حصة مصر المائية (55.5 مليار متر مكعب سنويا ) لن يتم المساس بها سواء بسبب سدود إثيوبيا أو بسبب التغيرات المناخية أو كليهما .أما باستبعاد هذا الفرض فإن نصيب الفرد من المياه يمكن أن يتدنى إلى 220 متر مكعب سنويا وهى كمية تكاد لا تكفى احتياجات الفرد للاستخدامات المنزلية ، دعك من الاحتياجات غير الزراعية الأخرى ، وفى جميع الحالات لا يتبقى للرى والزراعة أية مياه نيلية .بل قد تتحقق هذه الحالة عند منتصف الألفية. السؤال المطروح هنا لا يتعلق بإصلاحات ينبغى إدخالها على السياسات الاقتصادية والزراعية والمائية خلال الخمسينية بقدر ما يتعلق بتبنى سياسات جديدة تماما فى إطار استراتيجية ل "الأقلمة" Adaptation strategy تستهدف التواؤم مع العلاقات السكانية الموردية الجديدة وفى نفس الوقت الاستيعاب المنظم للسكان الزراعيين فى القطاعات غير الزراعية. ويعنى ذلك بالضرورة مراجعة استراتيجية 2030 وتجنب ضخ استثمارات ضخمة فى مشروعات للتوسع الأفقى فى الأراضى الصحراوية كمشروع المليون ونصف المليون فدان ، أو مشروع الأربعة ملايين فدان ، وهى مشاريع تستنزف المخزون المائى الجوفى فى زراعات لا تتناسب مطلقا مع القيمة الاقتصادية لعنصر المياه مرتفع الندرة . ثم إنه إذا كانت التقديرات المائية التى أسلفناها صحيحة ، وأنه بحلول منتصف الألفية ،سوف تستنزف الاستخدامات غير الزراعية كل المياه العذبة المتاحة، فإن مثل هذه المشروعات لا يتوافر لها عنصر الاستدامة ، ويترتب على ذلك ضياع استثمارات هائلة فضلا عن استنزاف المخزون المائى .والأهم من ذلك أن هذه الاستثمارات من الأجدى اقتصاديا توجيها إلى رفع كفاءة استخدام المياه فى القطاعات غير الاقتصادية لاسيما قطاع الصناعة ، ومشروعات تنقية مياه الصرف الصحى والصناعى وإعادة استخدامها فى قطاع الزراعة ، حيث قد تعطى الأولوية فى هذه الحالة لزراعات الأرز صيفا فى منطقة شمال الدلتا لمقاومة تسرب مياه البحر فى اراضيها.وقد تكون بطبيعة الحال فرصة لزراعة محاصيل تقليدية أخرى كالقمح والبرسيم شتاءا ، إلا ان المساحات المزروعة من هذه المحاصيل ستتوقف بطبيعة الحال على كمية المياه التى يمكن تدويرها سنويا من مياه الصرف الصحى والصناعى فضلا عن مياه الصرف الزراعى . أحد العناصر المهمة فى استراتيجية الأقلمة هو توجيه استثمارات كافية للبحوث والتطوير فى مجال الأصناف النباتية والممارسات الزراعية الموفرة للمياه والمقاومة للجفاف والمقاومة للملوحة ،وكذا إلى مجالات البحوث المائية ووسائل تقليل تلوث المياه والسيطرة على السحب من المخزون الجوفى .وفى هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن المخصصات الحالية للبحوث الزراعية لا يتجاوز 20 مليون جنيه سنويا وهو يساوى صفر تقريبا إذا نسب إلى الناتج المحلى الإجمالى الزراعى بينما يجب تخصيص ما لا يقل عن مليار جنيه سنويا . من المعروف أنه مع تزايد ندرة الموارد الارضية والمائية ، تتزايد أهمية التقدم التكنولوجى فى تحقيق زيادة الإنتاج فى إطار التوسع الرأسى ،وفى المقابل ليس منطقيا أن تتجه الدولة إلى إنفاق استثمارات هائلة فى مجال التوسع الأفقى الزراعى بملايين الأفدنة فى الصحراء المكشوفة تحت درجة حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية بينما تتجه الموارد المائية العذبة إلى النضوب . كلما تاخرت الدولة فى تبنى استراتيجية الأقلمة والتحول ، والاستمرار بدلا من ذلك فى تطبيق سياسات الخمسينية المنقضية المليئة بالتناقضات وعدم الملاءمة والتحيز ضد القطاع الزراعى كلما ترتب على ذلك تحميل المجتمع المصرى أعباء باهظة التكاليف فى التحول إلى الاستراتيجية الصحيحة .
* أستاذ الاقتصاد الزراعى – كلية الزراعة – جامعة القاهرة