بالتأكيد هناك علاقة وظيفية متكاملة بين الميدان وبين البرلمان، المتمثل اليوم فى مجلس الشعب المنتخب: فلا أحد يستطيع أن ينكر أن البرلمان الحالى هو ولادة طبيعية للثورة المصرية.. كما لا يستطيع أحد أن ينكر أن أولويات هذا المجلس لا بد أن تشمل تحقيق الأهداف التى قامت الثورة من أجلها.. ولكن يوجد عدد من الكتّاب والصحفيين الذين لا يعجبهم أول وأخطر إنجاز للثورة متمثّلًا فى انتخابات حرّة لمجلس شعب، تُشكِّل التيارات الإسلامية فيه الأغلبية المطلقة.. ويتقلّص حجم اللبراليين والعلمانيين فيه إلى وضع الأقلية الهزيلة المُحبَطة.. خلافًا للتوقعات التى راودت عقولهم وأحلامهم.. فراحو يقلّلون من شأن هذا الإنجاز الديمقراطى العظيم ويضخمون فى شأن الميدان.. ويُضْفون عليه من خيالاتهم المريضة هالات من القداسة هو برىء منها.. البيانات العنترية التى أطلقوها قبل الانتخابات، وعلى رأسهم سيّدهم وأحد أكبر مموّليهم بعد أمريكا.. وأقصد به نجيب ساويرس.. كانت تقول فى مجملها: لن نسمح أبدا أن يستحوذ التيار الإسلامى على الأغلبية فى البرلمان أو أن يحكم الإسلاميون مصر.. كانوا يتحدثون وكأنهم هم الشعب المصرى.. أو أنهم يملكون الأغلبية فى الشارع المصرى.. ولكن خيب الشعب والشارع المصرى آمالهم.. ومنح أكثر من سبعة عشر مليون ناخب أصواتهم وثقتهم للتيارات الإسلامية.. وكان ينبغى أن يحترم الجميع نتائج الانتخابات التى جرت حرة فى مصر لأول مرة فى تاريخها الحديث، وأن يعترف الجميع بالحقائق الجديدة التى حاول البعض فى الماضى طمسها.. واعتقدوا أنهم قد نجحوا فى تدمير الهوية الإسلامية لهذا الشعب.. فأثبت لهم من خلال هذه الانتخابات أنهم كانوا واهمين.. لم يعرفوا قدْر هذا الشعب ولم يدركوا قدْرهم ووزنهم الحقيقى فى الشارع المصرى.. فصدمهم الشعب بنتائج الانتخابات ليستفيقوا، ويروْا أنفسهم فى مرآة الحقيقة. هم إذن يتعاموْن عن الحقائق ويُمْعِنون فى غيّهم وإنكارهم، وبدلا من الاعتراف بالحقيقة يعودون بنا إلى الدوائر المفرغة التى شغلوا الناس بها على مدى أشهر العام الماضى ابتداء من مارس 2011. يصوّر الدكتور محمد البلتاجى عضو مجلس الشعب وأمين حزب الحرية والعدالة هذا الموقف أصدق تصوير بعبارات قصيرة وبسيطة بأنه عودة إلى "ثنائيات الاستقطاب وصناعة الأزمات التى كانت تدور فى الأشهر الأولى للثورة حول (المدنية أم الدينية)- (الدستور أم الانتخابات) واليوم تدور حول(احتفالية أم ثورة جديدة) -(برلمان أم ميدان).. ثم يضيف مؤكّدًا أن: من حق هذا الوطن أن يعتز بمناسبة اليوم الذى ولد فيه من جديد وأن يفخر بما حققه حتى الآن من أحلام.. وفى الوقت ذاته يقول لأرواح الشهداء أننا ماضون على الدرب ولن نقبل بغير تحقيق كامل للأهداف التى [استشهدتم] من أجلها والتى لم تتحقق بعد.. إنه ليس صحيحًا أننا لم نحقق شيئًا وعلينا أن نلطم الخدود لفشل الثورة.. وليس صحيحا أننا أنجزنا أهدافنا كاملة وعلينا أن نغنى ونرقص لانتهاء الثورة.. نعم لولا الميدان ما كان البرلمان لكن أكثر من فى البرلمان قد جاءوا من الميدان.. نعم البرلمان سيبقى فى حاجة لدعم الميدان كما أن البرلمان هو من سيحقق مطالب الميدان ويحولها إلى حقائق على الأرض". هكذا وضع البلتاجى العلاقة الصحيحة بين الميدان والبرلمان فى وضعها الصحيح.. ولكن من ينتسبون إلى ما يسمونها بالتيارات اللِّبرالية يصرّون أن يضعوا الميدان فى مواجهة البرلمان.. كأنهما على طرفى نقيض.. وأن بفصّلوا صورة الميدان على مقاسهم باعتباره احتكارًا لقلة من التيارات والأحزاب المحبطة التى لم تحظ بثقة الشعب فى الانتخابات.. ويستبعدون من هذه الصورة الأغلبية الإسلامية.. فى محاولة لاستفزازها إلى ممارسة العنف وجرّها إلى مصادمات دموية.. لولا حكمة الإسلاميين وقدرتهم على ضبط النفس.. مما فوّت الفرصة على غوغائية الغوغاء.. أنت تستطيع أن تسوق إلى الميدان عشرات من الغوغاء لارتكاب جرائم غبية وحماقات.. ولكنك لا تستطيع أن تسمى هؤلاء بالثوار وتكون صادقًا مع نفسك ومع الحقيقة..! أقول: إن كلام الدكتور البلتاجى كلام جدير بالنظر والتأمل لأنه يصدر من قيادة برلمانية لها مكانة مرموقة ولها تاريخ معروف فى النضال والخبرة السياسية فى مواجهة النظام البائد.. ولم يأت من صحراء سياسية قاحلة، أو كما قال إبراهيم عيسى فى بعض مقالاته.. لقد أحسنتُ الظن بإبراهيم عيسى وتعاطفت معه فترة من الزمن، فيما خيّل إلى أنه يقف مواقف شجاعة من النظام الاستبدادى البائد.. وتابعته على الفضائيات فى برامجه المتلفزة "الرائعتان فاطمة وخديجة" وغيرها.. فاستحسنت منها ما كان حسنًا، واستهجنت منها ما رأيته تجاوزا وخفّة.. ولكنى التمست له العذر: بأنه لا يزال حديث السن.. فهو أصغر من ابنى بخمس سنوات.. وستصقله القراءة والخبرة مع الأيام.. ولكنه خذلنى بعد الثورة فانصرفت عنه لأنه مسح مصداقيته عندى بما تورّط فيه من صراعات.. اتسمت بالانتهازية واللهاث خلف الثروة دون اعتبار لمصادرها.. سقط فى نظرى إبراهيم عيسى ككاتب شجاع وبرزت لى جوانب أخرى من شخصيته متمثّلة فى مواقفه.. وفى مقالاته التى لا تتحرى الحقيقة.. بل تروّج لأفكار مضللة وتثير شبهات غير ممحصة عن التيارات الإسلامية.. وبالأخص عن الإخوان المسلمين.. وتبرز بصفة مؤكدة أنه لا يكنّ أى عاطفة أو احترام لتاريخ الإسلام نفسه.. فهو يروج مع غُلاة العلمانيين أن الإسلام الصحيح لم يستغرق سوى ثلاثين سنة.. وبعدها تحول إلى نظام استبدادى ضد الحرية والعدالة.. ففى نهاية إحدى مقالاته -متمسّحًا بكلام للشيخ محمد الغزالى انتزعه من سياقه وأساء تفسيره ليفرض على القارئ رؤيته- يقول: هل فهمتَ أننا كنا تحت رئاسة أو ولاية دولة إسلامية لكن لا حققت عدلا ولا حرية..؟! وهكذا يلخص إبراهيم عيسى – كما فعل غُلاة العلمانيين- تاريخ الإسلام كله فى هذه العبارة التى يحاول بها نسف كل منجزات التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية.. متجاهلا ماحقّقه الإسلام لشعوب الأرض من حرية وعدل ومساواة.. وما أبدعه من تقدّم حضارى فى العلوم والفنون.. مما أشاد به العلماء والمفكرون.. وألفوا فيه مئات الكتب فى كل اللغات الحية.. قرأت لإبراهيم عيسى مؤخّرا عشر مقالات ظهرت فى الآونة الأخيرة منها: "من لا ميدان له لابرلمان له" و"الخالق الناطق" و"ليست ثورة المشير والمرشد"و"الإخوان والصفقة التى لا تنتهى أبدًا" وغيرها... كلها تدور حول موضوع واحد وأفكار لا يمكن لقارئ محلل أن يخطئ فهم أهدافها ومراميها.. التى يمكن تلخيصها بإيجاز شديد فيما يلى: أولا: شيطنة المجلس العسكرى باعتباره السبب فى كل ما أصاب مصر من كوارث فهو على حد قوله: أفسد علينا اقتصادنا وخرب علينا سياحتنا ولم يرجع إلينا أمننا وأماننا، ورفع لنا الأسعار، وخلق أزمات من الغاز إلى البنزين، وأدار البلد بكل عشوائية وعبثية وارتجال، ولم ينجح إلا فى السماح للأحزاب الدينية بالسيطرة على البرلمان. كأن المجلس العسكرى هو الذى فرض نُوّاب التيارات الإسلامية على البرلمان ولم ينتخبهم الشعب.. أو بالأحرى كان يريد أن يقف المجلس من البداية ضد ترشيحاتهم ويقوم بعزلهم واستئصالهم، كما كان يفعل نظام مبارك.. ثانيا: من خلال تكراره وإصراره على ربط التيارات الإسلامية بعجلة المجلس فيما يصفه بأنه صفقة مصالح متبادلة، يشيطن التيارات الإسلامية ويخلع عليها ثوب الخيانة الوطنية وخيانة الثورة وخدمة الاستبداد.. يقول إبراهيم عيسى: "إن الإخوان يريدون الحفاظ الجنونى على النظام القديم ما داموا هم الذين يسيطرون عليه..."! من أين جاء بهذا الحكم الذى لا يستند إلى أساس من المنطق أو قراءة الواقع قراءة صحيحة غير متحيزة.. لقد قرأ إبراهيم عيسى تاريخ الإخوان قراءة انتقائية متحيزة واستنتج من قراءاته الخاطئة نتائج مسبّقة لم يضعها كفروض قابلة للبحث والمناقشة.. وإنما فرضها فرضا متعسّفًا.. وجعلها مسلّمات لكل ما كتبه عنهم.. وهو فى هذا ليس بدْعا من الكُتّاب الغلاة المتعصبين ضد الحقيقة وضد الإسلام نفسه.. أحب أن أوضح أننى لم يخطر ببالى أبدا ولا قصدتُ الدفاع عن الإخوان المسلمين، ولست واحدا منهم.. ولا صلة لى بأحد من قادتهم اليوم أو بالأمس.. وهذا الرجل الذى ذكرتُ اسمه فى صدر هذا المقال لم أحاول الاتصال به شخصيًا ولا هو فعل، ولم نلتقِ إلا مرة واحدة بالصدفة المحضة.. كان ذلك فى مؤتمر دُعيت إليه فى لندن، موضوعه "حوار الثقافات".. وكان من بين الحضور مفكرون مسيحيون ويهود.. أعطانى الدكتور البلتاجى مشكورا بطاقته للتواصل.. ولم أكن أحمل بطاقة خاصة بى فقد آليت على نفسى- فيما تبقى لى من عمر قصير على هذه الأرض- أن أتفرّغ للقراءة والمراقبة والتحليل والكتابة عما أعتقد أنه مفيد للناس.. ولكننى غيور على الحقيقة.. غيور على الحق فى أى جانب كان.. وقد رأيت هول ما قد تعرض له الإخوان المسلمون ويتعرّضون له من ظلم واستئصال وافتراءات وتشويه.. وإبراهيم عيسى قد أصبح واحدا من هؤلاء الاستئصاليين المفترين، الذين يحاولون التمترس خلف شعارات الثورة والحرية والديمقراطية، وهو أبعد ما يكون عنها جميعا فقد اختار لنفسه أن يصطفّ مع أعدائها، فكرهت انتهازيته.. أنا لست ضد نقد الإخوان فيما يخطئون فيه.. فهم بشر من البشر وأنا أول من انتقدهم.. ومن يتابع مقالاتى منذ فبرير 2011 إلى اليوم سيرى هذا النقد واضحًا.. ولكننى ضد الكذب والافتراء وتضليل القراء بمقالات سطحية مثل مقالات إبراهيم عيسى.. ما الفرق بين ما يفتريه إبراهيم عيسى وبين افتراءات محامى مبارك فى المحكمة، حيث زعم أن الإخوان كانوا ينسّقون مع مباحث أمن الدولة يوم 28يناير 2011 ضد الثورة..؟! ليكن رأيك فى الإخوان مايكون مخالفا أو منتقدا.. كارها أو مُحِبّا.. ولكنك إذا تولّيت أمانة الكتابة للناس، عليك أن تكون منصفا متحرّيا للحقيقة.. لا كاذبا ولا مفتريا ولا مضللا.. ولا همّازا لمّازا.. ف [ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمَزَة، الذى جمع مالا وعدّدّه، يحسب أن ماله أخْلده، كلّا ليُنْبَذنَّ فى الحُطَمَة...] نعوذ بالله منها ومن أهلها... [email protected]