لم أفهم أبدًا أى معنى للخلاف البيزنطى، الذى فجرته بعض المجموعات السياسية فى تظاهرات ذكرى ثورة يناير، بين القول بأنها احتفال بذكرى انتصار الثورة، والقول بأنه عيب أن نقول إنه احتفال لأنه لا يليق بذكرى الشهداء، وأنها ثورة ثانية وليست احتفالية، ووصل العبث إلى حد محاولة فرض "رؤية" الحدث على الأطراف الأخرى، على طريقة: قل ولا تقل، وهذا فى تقديرى أكثر من كونه عبثًا وجدلا بيزنطيًا، وأكثر من كونه استبدادًا صريحًا يناقض أهم ما أنجزته ثورة يناير، هو نوع من التحرش وجر الشكل وافتعال الأزمات. أنا شخصيًا أعتبر أنها ذكرى الانتصار، وذهبت للاحتفال بالانتصار، انتصار الثورة وانتصار الشعب على الطاغية ونظامه، وبالتالى اعتبرت أنى عندما كنت فى ميدان التحرير كنت أحتفل بالنصر، وأحتفل بالشهيد أيضًا الذى حررنى وحرر الوطن كله، فالتعامل مع الشهادة والشهيد لا يصح أن تكون بنفس منطق التعامل مع قضايا الثأر العائلى والعشائرى، ثأر الشهيد ليس أن تقتل آخرين كما قتل هو، بل ثأر الشهيد بأن تنتصر رايته وتنتصر رسالته وتتحقق أمنيته التى ضحى بحياته من أجلها، ثأر الشهيد أن يتحطم الصنم الذى ثار فى وجهه ووجه آلته القمعية، وقد انتصر شهداء ثورة يناير بالفعل، فدم الشهيد هو الذى أسقط مبارك من عرشه وأدخله السجن، ودم الشهيد هو الذى أسقط برلمان الطاغية المزور وأسقط حزبه ودمره، ودم الشهيد هو الذى أعتق كل القوى الوطنية من ربقة الذل وأمن الدولة والمؤسسة الأمنية الإجرامية بأذرعها العديدة، ودم الشهيد هو الذى كسر الحصار الاستبدادى على الأحزاب والتيارات، وهو الذى منحهم القدرة على انتزاع الحق القانونى فى الوجود والعمل والمنافسة، ودم الشهيد هو الذى عبَّد الطريق أمام إنجاز أعظم انتخابات برلمانية فى تاريخ مصر الحديث، وهو الذى أتى بضحايا الأمس على كراسى المجلس الرئيسية، بينما من استولوا عليها زورا وتجبرا ملقون فى السجون الآن، ودم الشهيد هو الذى فتح الأبواب أمام كل أصوات مصر الوطنية أن تنتزع حقها فى التواصل مع الناس والتعبير الحر عن الرأى والجهر بكلمة الحق عارية صريحة، وهو الذى مكننى أنا شخصيا وفريق العمل معى فى أن ننتزع حقنا فى صحيفة رفض النظام المخلوع فى أن يمنحها لنا ولو كرخصة أجنبية مستوردة، فنحن مدينون لدم الشهيد بوجودنا وبتلك الأسطر التى يقرأها متصفحو صحيفة "المصريون". فمن الذى يريد أن يفرض على إنكار أن هذا كله انتصار للثورة وانتصار للشهيد، ولماذا لا أحتفل بذكرى النصر، ولماذا لا أحتفل بهذا الشهيد، لماذا الإصرار على أن أقيم صوان عزاء وألطم الخدود وأشق الجيوب، هل أنكر انتصار الثورة لأن الحد الأدنى من الأجور لم ننجزه حتى الآن مثلا، هل أنكر انتصار الثورة وانتصار الشهداء لأن الإعلام الرسمى لم تتم هيكلته حتى الآن بصورة جادة، هل أنكر انتصار الثورة لأن عملية نقل السلطة من العسكرى تأخرت أربعة أشهر أو ستة أشهر، هذا عبث، وضيق أفق، ومحض تحرش، ولا أريد أن أقول صراحة إنها متاجرة بدم الشهيد من أجل قطع الطريق، بصورة غير ديمقراطية، على بدء عمل البرلمان الذى أتى بصورة ديمقراطية، فليس من باب المصادفة أن يكون جميع هؤلاء الذى أثاروا ضجة نحتفل أم نعزى، هم من الذين خسروا الانتخابات أو لم يحصلوا فيها إلا على هامش صغير. [email protected]