الطفل المولود اليوم فى مصر، عمر المتوقع 85 سنة ، وعندما يصل إلى هذا السن فى 2100 سيكون عدد سكان مصر 260 مليون نسمة ، وسيكون عدد سكان إثيوبيا نفس الرقم تقريبا ، وسيكون عدد سكان السودان نحو 100 مليون نسمة ، أيى سيكون إجمالى عدد سكان الدول الثلاث (حوض النيل الشرقى) 620 ملسون نسمة أى ثلاثة أضعاف العدد الحالى البالغ نحو 215 مليون نسمة. هذا التطور السكانى سوف يخلق ضغطا رهيبا على الموارد المائية المتاحة ، وسوف يكون وضع مصر أكثر الدول حرجا بالنظر إلى أن النيل هو المصدر الوحيد للمياه فيها . وإذا كانت إثيوبيا شيدت اليوم سد النهضة (الذى وافقت عليه مصر ببساطة غريبة) وخمسة سدود أخرى ، فيتوق بحلول عام 2100 أن تكون ال 6 ألاف كيلومتر طول نهر النيل قبل أسوان ، مغطاة بعشرات السدود فى إثيوبيا والسودان . وإذا كان الخلاف بين إثيوبيا ومصر حول الإخطار المسبق (للسدود) هو الذى فجر الصراع بينهما ، فسوف أقصى مطلب لمصر فى المستقبل هو أن تخطر إثيوبيا مصر مسبقا بكمية المياه الشهرية التى سوف تطلقها فى النيل لدولتى المصب السودان ومصر. فإذا أخذنا فى الاعتبار الضغوط السكانية ومتطلبات التنمية الاقتصادية فى إثيوبيا باعتبارها دولة المنبع وفى السودان باعتبارها دولة مصب ولكن تسبق مصر ، يضاف إلى ذلك اعتبارات التغبرات المناخية ، فإن كمية مياه النيل المتاحة لمصر لن تتجاوز 30 مليار متر مكعب سنويا مقارنة ب 55.5 مليار متر مكعب سنويا فى الوقت الحالى (وقبل تشغيل سد النهضة). ويعنى ذلك أن نصيب الفرد فى مصرمن المياه سيكون حينئذ 115 متر مكعب سنويا (مقارنا ب 620 متر مكعب حاليا)، وهى كمية تكفى بالكاد لتغطية مياه الشرب والاستخدامات المنزلية والصناعة. والنتيجة الكارثية لهذا السيناريو أنه لن تبقى قطرة مياه واحدة للزراعة ، وبعبارة أخرى سوف يختفى القطاع الزراعى تماما من الاقتصاد المصرى. يفجر هذا السيناريو المخيف طوفانا من الأسئلة التى على الباحثين معالجتها وتقديم اقتراحات وتوصيات تنشل صانع القرار الغارق حتى أذنيه فى حل المشكل اللحظية من الاتجاه إلى مسارات مدمرة تفاقم الأوضاع المستقبلية على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية. أحد هذه المسارات هو مشروع اسصلاح واستزراع 4 مليون فدان فى الصحراوات المكشوفة فى أكثر المناطق جفافا فى العالم.بطبيعة الحال تظل فكرة الخروج من الوادى القديم إلى الوادى الجديد والأراضى الجديدة عموما فكرة لا نقاش فى ضرورتها ، إذ لا يتصور بأى حال أن يقبع هذا الحجم السكانى (260 مليون نسمة) فى مساحة لا تتجاوز 4% من مساحة مصر الكلية . ولكن مربط الفرس فى تحقيق الفكرة هو كيفية تحقيق "الخروج الآمن" وليس "الخروج الانتحارى" .إن النمط التنموى الذى يجرى تنفيذه الآن على قدم وساق باستزراع ملايين الأفدنة فى الصحراء المكشوفة التى تصل درجة الحرارة بها صيفا إلى 50 درجة مئوية هو نوع من الخروج الانتحارى ، جربته مصر فعلا فى مشروع توشكى الذى كان وبحق نموذجا للمشروعات العملاقة الفاشلة.والمرحلة الأولى من مشروع ال 4 مليون فدان هى مشروع ال 1.5 مليون فدان التى تبلغ استثماراته 350 مليار جنيه (233 ألف جنيه للفدان) واحتياجاته المائية تبلغ 7.5 مليار مترمكعب سنويا ، 80% منها من المياه الجوفية. والأمر الخطير بشأن هذا المشروع أنه بدأ تنفيذه فعلا بناء على دراسات ما قبل الجدوى Pre-feasibility studies وليس دراسات الجدوى ذاتها التى تلى بالضرورة دراسات ماقبل الجدوى.ومن المفترض أن الأهداف العليا لمثل هذا المشروع تتمثل فى 1) المساهمة فى النمو الاقتصادى العام (القيمة المضافة) ، 2) الأمن الغذائى (رفع درجة الاكتفاء الذاتى من محاصيل الغذاء الأساسية) ،3) التصنيع الزراعى ،4) خلق مجتمعات عمرانية جديدة (لسحب جزء من الكتلة السكانية بالوادى القديم)،5) وزيادة الصادرات الزراعية.وبطبيعة الحال سوف يساهم المشروع بصورته الحالية فى تحقيق هذه الأهداف ، ولكن بتكلفة عالية جدا بالمقارنة للمنافع المتوقعة مما يجعله "غير مجدى اقتصاديا ولا بيئيا"Economically and environmentally unfeasible .هذه الأهداف ذاتها يمكن أن تتحقق بتكلفة أقل على المجتمع بمسار مختلف وباختيارات أخرى أكثر استدامة اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا.وهذا ما نفصله فى مقال آخر. * أستاذ الاقتصاد الزراعى-كلية الزراعة-جامعة القاهرة