أنهيت مقال الأسبوع الماضي بالتساؤل عما ينبغي أن يكون عليه موقف وسلوك حماس إذا ما حصدت الحركة غالبية ساحقة في الانتخابات التشريعية التي ستجري بعد أيام قليلة في فلسطين. وقد طمأنني كثيرا ما قاله القيادي البارز في الحركة محمود الزهار في هذا الصدد في حديث مع صحيفة نيويورك تايمز(عدد 12/1)، حيث قال كثيرا مما كنت أسعى للتعبير عنه في هذا المقال. على الرغم من أن إستطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى أن حماس ستأتي في المرتبة الثانية بعد فتح محققة حضورا قويا ، إلا أنه بسبب التطورات الأخيرة من إنشقاقات داخل فتح وما أدت إليه من فوضى أمنية ، فالإحتمال قائم بأن تفوز حماس بأغلبية كاسحة. وما كنت أريد قوله قبل مطالعة تصريحات الزهار هو أنه سيكون خطأ فادحا من حماس أن تسعى منفردة إلى تشكيل حكومة بناء على فوزها بالأغلبية ، وأنها يجب أن تسعى إلى ضم ممثلين من فتح وشخصيات أخرى مستقلة تتمتع بالاحترام والتقدير ومشهود لها بالنزاهة والوطنية. وما أراه هو أن الحكومة القادمة يجب أن يحتل فيها البرغوثين مواقع رئيسية : مروان كرئيس للحكومة ومصطفى كوزير خارجيتها ، فضلا عن السيدة حنان عشراوي كمتحدثة باسم الحكومة. وتقوم وجهة نظري تلك على أساس ما يتمتع به كل من هذه الشخصيات. لن أتحدث عن السيدة عشراوي لأني لا أظن أن أحدا يجهل ما تتمتع به من تقدير في إعلام الغرب وأوساطه الرسمية والشعبية وتجمعاته الأهلية. أما مروان البرغوثي فهو قائد شعبي من الطراز الأول، علاقاته ممتازة مع جميع فصائل المقاومة. وهو لا ينتمي إلى فريق المتأمركين العرب الذين يضعون العلاقة مع أميركا فوق العلاقة مع الشعوب . كما أنه لا ينتمي إلى فريق الأحلام الإسرائيلية (فريق الشيوخ العجزة من الحكام العرب) الذي حقق لإسرائيل كل ما كانت تصبو إليه من إنجازات ومكاسب وهيلمان وسطوة. ولا ننسى الضجة التي أثارها ترشيح البرغوثي في إنتخابات الرئاسة أمام محمود عباس ، وهو ما إعتبره الأمريكيون والإسرائيليون والحكام العرب محاولة لكسر احتكار فريق الأحلام الصهيوني (الحكام العرب) للحكم والقرار في العالم العربي . كم أن مروان يؤمن التفاوض المسنود بقوة المقاومة، ويرفض التفاوض المستند إلى مناشدات وتوسلات حكام عرب يسعون إلى الحصول على فتات يبرر لهم التطبيع وإرسال السفراء. أما البرغوثي الثاني ، د. مصطفى فيؤمن بالمقاومة السلمية غير المسلحة ، ويتمتع بعلاقات وثيقة مع حركة التضامن الدولي والمنظمات غير الحكومية في الغرب. وهو أفضل من يستطيع الدفاع عن القضية أمام الرأي العام العالمي ، وتعرض لاعتداءات كثيرة من الإسرائيليين لنجاحه في لفت أنظار الإعلام الأوربي إلى الوحشية الإسرائيلية ، ويستطيع من موقعه كوزير أن يعبئ أصدقاءه وحلفاءه في عواصم الغرب لإثارة الصخب والضوضاء على جرائم إسرائيل (وهذا أمر مطلوب بشدة في المرحلة القادمة) . ولذا فإن الاحتلال يتربص به لأنه يدرك حجم الأضرارالتي يستطيع د.مصطفي أن يلحقها بإسرائيل على الساحة الدولية. كما يتمتع مصطفى البرغوثي بالكثير من مميزات السيدة حنان عشراوي : فهو شخصية جذابة إعلاميا ، ولسانه طلق في الانجليزية (وهو ما تفتقده الغالبية من قيادات فتح وحماس) ومشاركته في الحكم هو وحنان عشراوي سيضمن تغطية لأنشطة الحكومة الفلسطينية من جانب الإعلام الغربي ، مما يفتح الباب للإعلان عن ضغوط ومطالب الداخل الفلسطيني ويتيح الفرصة لوسائل الإعلام الدولية للدعاية لها وتكرار الحديث عنها ، فيسمع المواطن الغربي ويقرأ عن حقائق ظلت مغيبة عنه سنوات طويلة بسبب تقصير العرب في الترويج لقضيتهم إعلاميا . إن وضع مروان البرغوثي على رأس الحكومة الفلسطينية يضرب عدة عصافير بحجر واحد : فهو يعيد فتح ملف جريمة إختطافه ، وهو العضو البرلماني المنتخب ، ويعيد فتح ملف الأسرى ، ويعيد تذكير العالم بانتهاكات إسرائيل لاتفاقية جنيف بشأن حماية المدنيين الخاضعين للاحتلال. كما أن وجود رئيس حكومة السلطة الفلسطينية في السجن أمر يستحيل أن تسكت عليه عواصم العالم ، خاصة وأن مواقف مروان المبدئية من إسرائيل وإتفاقيات ياسر عرفات معها (على نقيض مواقف حماس) لا تثير حفيظة الغرب. أما عن حديث الزهار في النيويورك تايمز، فيمكن إيجازه فيما يلي : "حماس لن تعترف بإسرائيل في حال فوزها في الانتخابات القادمة ، ولن تتخلى عن سلاحها. ولكنها ستدعو إلى دمج كل الميليشيات الفلسطينية في جيش واحد أولا لوضع حد للفوضى الأمنية وثانيا لمقاومة الإعتداءات والاجتياحات الإسرائيلية. . حماس لن تعترف بالإتفاقات الموقعة بين السلطة وإسرائيل ، وإنما ستتعاون مع فتح لتشكيل حكومة جديدة .. نحن لا نريد أن نحل محل فتح .. حتى إذا إكتسحت حماس الإنتخابات فإن الفصائل الفلسطينية ستدعى إلى المشاركة في حكومة إئتلافية ، ولن تكون حماس بمفردها." هذا التصريح الأخير للزهار يعني أن حماس تلعب السياسة كما ينبغي .. فهي من ناحية تريد أن تتمسك بثوابتها ، وعلى رأسها رفض الاعتراف بإسرائيل وحق المقاومة وحق العودة والقدس، ومن ناحية أخرى لا تريد أن تمنح إسرائيل وحلفاؤها في الغرب ذريعة لتجميد الوضع على ما هو عليه. وهذا يعني ضرورة وجود وجوه مقبولة غربيا في الحكومة ، وفي نفس الوقت محترمة فلسطينيا وبعيدة كل البعد عن شبهة الفساد ، وضرورة وجود من هم أقدر على التواصل مع الرأي العام الغربي ، وجذب وسائل الإعلام لتوصيل الرسائل التي تأخرت كثيرا عن الوصول. غير أن الطريق إلى هذه الحكومة الائتلافية لن يكون ممهدا . وسيكون على حماس أن تلائم تكتيكاتها المرحلية مع إستراتيجيتها بعيدة المدى ، ناهيك عن إسرائيل التي لن تدخر جهدا لإفساد تشكيل هذه الحكومة إما عن طريق إستفزازاتها العسكرية في الداخل أو تهديدها للأقصى أو ضغوط حلفائها على قادة الغرب لدفع الحكام العرب لكي يكونوا أداتهم في إجهاض هذه الحكومة بذريعة وجود "عناصر إرهابية" فيها. وكانت نيويورك تايمز قد نشرت في نفس العدد (12/1) خبر المكالمة التليفونية التي أجراها جورج بوش مع إيهود أولمرت للإطمئنان على صحة شارون ، حيث حذر أولمرت الرئيس الأمريكي من أن "جهود السلام يمكن أن تنهار إذا شاركت منظمات إرهابية مثل حماس في الحكومة الفلسطينية القادمة .. محمود عباس يجب أن يبطش بهذه الجماعات وإلا فإنه لن يحدث أي تقدم مع إدارة حكم ينتمي إعضاؤها إلى جماعات إرهابية." ويلفت النظر أيضا ما قاله مراسل الجريدة جريج ماير: " ليس واضحا ما إذا كانت حماس ستطالب بمواقع وزارية في الحكومة أم لا." وهو ما يعود بنا إلى الفطنة المطلوبة من جانب حماس في تشكيل الحكومة القادمة. باختصار على حماس التركيز على المواقع الوزارية المتعلقة بالداخل مثل التعليم والصحة والإعلام والمقاومة ، وترك فيما عدا ذلك لشخصيات أخرى من أجل تجنب مواجهات لا داعي لها مع الغرب ، يتطلع إليها الصهاينة من أجل إثارة القلاقل والاضطرابات في الداخل الفلسطيني بهدف تشديد الضغوط على حماس حتى تعترف بإسرائيل وتخون قضيتها. وحماس هي أول من يدرك بأن التنازل مرة يقود إلى تنازلات لا نهاية لها. [email protected]