ما إن أعلنت روسيا بشكل مفاجيء عن سحب قواتها من سوريا, إلا وتسارعت التفسيرات حول مغزى هذه الخطوة, وتداعياتها فيما يتعلق بمفاوضات جنيف. وقالت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية إن القرار الروسي المفاجيء بشأن الانسحاب العسكري من سوريا, قد يكون مؤشرا على نهاية دعم موسكو غير المشروط لنظام بشار الأسد. ونقلت المجلة في تقرير لها في 15 مارس عن الخبير في الشئون السورية بمركز واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أندرو تابلر, قوله :" إن روسيا يبدو أنها بدأت تراجع دعمها للأسد, بغية الضغط عليه, ليقدم تنازلات في مفاوضات جنيف". وتابع " مفاوضات جنيف كانت تسير باتجاه طريق مسدود, قبيل إعلان موسكو المفاجئ عن الانسحاب العسكري من سوريا". وتحدثت "فورين بوليسي" عن مفاجأة مفادها أنه كان هناك ارتباكا في صفوف نظام الأسد خلال الأيام الأخيرة, وتراجعت فجأة الثقة, التي كانوا يشعرون بها, منذ التدخل العسكري الروسي في سبتمبر الماضي. ونقلت المجلة عن المحلل جوشوا لانديس مدير "مركز دراسات الشرق الأوسط" بجامعة "أوكلاهوما" الأمريكية ، والذي كان على تواصل مع مسئولين مقربين من نظام الأسد, قوله :" إن هؤلاء المسئولين لم يعودوا يردون على اتصالاته الهاتفية، وهو أمر مفاجئ", حسب تعبيره. وأضاف لانديس "لا أحد من المسئولين السوريين في دمشق يرد على هاتفي, هذا يقودني للاعتقاد بأنهم محبطون تماما". وكان الكرملين أعلن في 14 مارس بشكل مفاجيء أن الرئيس فلاديمير بوتين أمر وزير الدفاع بسحب القوات الروسية الرئيسة من سوريا, وتخفيض عدد القوات الجوية ابتداء من 15 مارس. وقال موقع "ديبكا" القريب من الاستخبارات الإسرائيلية، في تقرير له في 15 مارس , إن هناك خلافات حادة نشبت مؤخرا بين موسكو وطهران حول مستقبل الحرب في سوريا من جهة، وخلافات لا تقل في حدتها بين بوتين وبشار الأسد بشأن المستقبل السياسي للأخير، من الجهة الأخرى. وبدوره, قالت إذاعة "مونت كارلو" الدولية, إن هناك عددا من الأسباب تقف على الأرجح وراء القرار الروسي المفاجيء, أولها أن بوتين حدد منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا مدة العمليات بأربعة أشهر, ولم يبق العملية مفتوحة الآجال. والسبب الأخر, هو تزامن القرار الروسي مع بدء مفاوضات جنيف، مشيرة إلى أن روسيا عملت بجهد لعقد هذه المفاوضات وتعرف أن استمرار العمليات العسكرية قد يعطل هذه المفاوضات. وتابعت الإذاعة " السبب الثالث, أن بوتين يرى أن تدخله أدى الغرض العسكري منه، حيث منع سقوط نظام بشار الأسد عسكريا على الأقل ، وساعد هذا النظام على استعادة زمام المبادرة ووقف تقدم معارضيه المسلحين, مما سمح للوفد الحكومي بالتوجه إلى جنيف والجلوس إلى طاولة التفاوض من موقع قوي . واستطردت " السبب الرابع أن التدخل العسكري أصبح مكلفا للاقتصاد الروسي الذي لا يزال يعاني أزمة كبيرة منذ العام 2009 ، في وقت وصل فيه سعر برميل النفط إلى أدني مستويات له ، مما أثر سلبيا على الخزينة الروسية', وفي حال استمرت الحرب طويلا ، قد تزيد من الأعباء على الاقتصاد الروسي, بل وقد تترك أيضا تداعيات سياسية, في غير صالح بوتين, مع تقلب مزاج الرأي العام الروسي". كما نقلت "الجزيرة" عن المحلل الروسي غيورغي بوفت, قوله :" إن موسكو منذ البداية لم تكن تسعى إلى إنقاذ نظام بشار الأسد بأي ثمن، بل هدفها الرئيس كان الخروج من العزلة الدولية, وهذا ما تمكنت من تحقيقه". وأضاف أن روسيا استعادت من خلال هذه الحرب موقعها كقطب دولي كبير, وكسرت أحادية القطب الأمريكي, الذي تفرد بإدارة العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وتابع بوفت "روسيا حققت أقصى ما يمكن التوصل إليه, دون القيام بعملية برية, فيما يتعلق بمكافحة تنظيم الدولة، متفادية أن تتحول سوريا إلى أفغانستان جديدة", وذلك في إشارة إلى أن الكرملين أراد تفادي تكرار تجربة الاتحاد السوفيتي سابقا في أفغانستان، حين خاض الجيش الأحمر هناك حربا استمرت عشر سنوات بين 1979 و1989, وانتهت بهزيمة كبيرة للسوفييت. وكانت وزارة الدفاع الروسية، أعلنت الثلاثاء الموافق 15 مارس، بدء سحب معداتها العسكرية من سوريا، تنفيذا لأوامر أصدرها الرئيس فلاديمير بوتين. وجاء ذلك بعد أن أمر بوتين، مساء الاثنين الموافق 14 مارس، بسحب القسم الأكبر من القوات الروسية في سوريا. وحسب وكالة "فرانس برس", طلب بوتين من وزارة الخارجية الروسية تكثيف دورها في الوساطة من أجل التوصل لاتفاق سلام ينهي الحرب السورية، التي أوقعت أكثر من 300 ألف قتيل, وشردت الملايين, على حد قولها. وأوضحت وزارة الدفاع الروسية، في بيان لها، أنها بدأت بتحضير الطائرات لرحلات طويلة المدى إلى قواعد في روسيا، مضيفة أن القوات العسكرية تقوم بتحميل معدات وتجهيزات على متن تلك الطائرات. وكانت قوات روسية وصلت منذ أكثر من 5 أشهر إلى سوريا وتمركزت في قواعد عدة، أبرزها قاعدة حميميم بمحافظة اللاذقية، لدعم قوات بشار الأسد. وتزامن القرار الروسي مع انطلاق جولة جديدة من المفاوضات غير المباشرة بين نظام الأسد والمعارضة السورية في جنيف، تحت رعاية مبعوث الأممالمتحدة إلى سوريا ستافان دي ميستورا. ومن جانبها, ذكرت "الجزيرة" أن طائرات حربية روسية عادت في 15 مارس إلى قاعدة جنوبموسكو. وقال مراسل "الجزيرة" في موسكو زاور شاوج إن دفعة أولى تضم قاذفات من طراز "سوخوي 24" وطائرات نقل من نوع "توبوليف 154" هبطت الثلاثاء 15 مارس في قاعدة "فورونيج" (500 كيلومتر جنوب غرب العاصمة الروسية). وفي وقت لاحق الثلاثاء, حطت في القاعدة نفسها طائرات حربية روسية أخرى قادمة أيضا من سوريا. وشارك قائد القوات الجوية الروسية فيكتور بونداريف مئات بينهم عائلات الطيارين الروس في استقبال العسكريين العائدين من سوريا. وأضاف مراسل "الجزيرة" أن طائرات النقل حملت معدات تقنية بينها رادارات كانت في قاعدة حميميم في ريف محافظة اللاذقية بشمال غرب سوريا. وقال إنه كان لدى سلاح الجو الروسي في قاعدة حيميم نحو ستين طائرة بينها قاذفات ومقاتلات وطائرات مروحية وطائرات شحن. ونقل المراسل عن مصادر عسكرية روسية أن بضع طائرات ستظل في تلك القاعدة موضحا أن روسيا أبرمت عقدا مع النظام السوري تستأجر بمقتضاه القاعدة لمدة 25 عاما، وينص الاتفاق على إعفاء العسكريين الروس من أي ملاحقات قضائية داخل سوريا. وعرض التلفزيون الرسمي الروسي صورا لعسكريين في قاعدة جوية روسية بسوريا وهم يحملون معدات إلى طائرات نقل لإعادتها إلى روسيا. وأظهرت الصور التي بثتها قناة روسيا 24 التليفزيونية، قوات تحمل معدات إلى طائرات إليوشن آي أل 76 للنقل الثقيل في قاعدة حميميم. وكانت روسيا قد تدخلت عسكريا في سوريا نهاية سبتمبر الماضي بذريعة محاربة تنظيم الدولة عقب تفجير طائرة ركاب روسية فوق سيناء المصرية، بيد أن جل الغارات الروسية استهدفت منذ ذلك الوقت فصائل المعارضة السورية, التي توصف بأنها معتدلة, والمدنيين. وأسفرت الغارات الروسية خلال خمسة أشهر ونصف عن مقتل ما لا يقل عن 1500 مدني سوري، فضلا عن مئات من مقاتلي المعارضة السورية، وفق بعض التقديرات. وبموجب القرار المفاجئ, الذي اتخذه بوتين في 14 مارس, سيكون هناك انسحابا جزئيا من سوريا، فيما ستواصل روسيا شن غارات على ما تسميه التنظيمات الإرهابية في سوريا, حسبما أعلن نائب وزير الدفاع الروسي. وفضلا عن الطائرات الحربية التي ستظل في قاعدة حميميم، ستُبقي روسيا أيضا على منظومة الصواريخ "إس 400", حتى تتأكّد من تطوّر الأوضاع في سوريا، حسب ما قاله رئيس لجنة الدفاع والأمن بالمجلس الفيدرالي الروسي. وبررت موسكو سحب الجزء الأساسي من القوات الروسية العاملة في سوريا, وبأنها أنجزت المهمة الموكلة إليها، وبرغبة روسيا في إنجاح المحادثات الجارية في جنيف بين نظام الأسد ومعارضيه, بوساطة الأممالمتحدة، وبناء على تفاهم بين موسكووواشنطن. وقال قائد القوات الجوية الروسية أثناء استقبال العسكريين العائدين من سوريا :"إن بلاده أنجزت مهمتها، وإن قوات النظام السوري وقوات التحالف الدولي وفصائل من المعارضة لديها إمكانيات لمواجهة تنظيم الدولة". ونقلت وكالة "إنترفاكس" الروسية عن مصدر عسكري قوله إن المستشارين العسكريين الروس سيستمرون في عملهم من أجل تقديم الدعم لكوادر الجيش السوري، فيما يتعلق بالتدريب والمساعدة. وعلى مدى 177 يوما وبدعوى محاربة الإرهاب، أمطرت مقاتلات سلاح الجو الروسي المدن السورية بآلاف الأطنان من المتفجرات، أسفرت عن تحقيق مكاسب للنظام السوري على الأرض، وخلفت آلاف الضحايا وأضعافهم من النازحين, حسب "الجزيرة". وبدأت الضربات الجوية الروسية في 30 سبتمبر من العام الماضي، ومكنت تلك الضربات قوات الأسد من استعادة السيطرة على معظم ريف اللاذقية الشمالي حتى غدت قواته تعرض مناطق قوات المعارضة المسلحة في ريف إدلب للخطر, وأحكمت سيطرتها على الطرق بين المنطقتين، كما فرضت حصارا على ريف اللاذقية الشمالي. وفي ريف حلب الجنوبي، استعادت قوات الأسد مناطق واسعة وكادت تسيطر على منطقة طريق دمشق حلب الدولي تحت غطاء جوي روسي كثيف. وفي ريف حلب الشرقي، استعادت قوات الأسد السيطرة على أكثر من عشرين قرية كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وعززت حماية طريق إمدادها البري الوحيد بين حماة وحلب. وفي الغوطة الشرقية في ريف دمشق، استولت قوات النظام على مساحات واسعة من منطقة المرج. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد خلفت الغارات الروسية 1484 قتيلا من المدنيين, وخلال الأشهر الثلاثة الأولى قتل 152 طفلا و60 امرأة في الغارات الروسية التي استهدفت 111 موقعا, لم يكن بينها من الأهداف العسكرية سوى عشرة. وتقول منظمات معنية بالشئون الإنسانية, إن الغارات الروسية استهدفت 27 مركزا طبيا منذ بدء الغارات الجوية، و22 مدرسة ومستشفى في إدلب وحلب ودرعا واللاذقية بينها مستشفيات للأطفال.