إن من يحاول القيام بعملية تأصيل شرعي لهذه المسألة ،وفي أغلب الإعتقاد سيجد أن الشارع الحكيم لم يحدد للناس نظاماً معيناً يحكمون علي أساسه دولهم البسيطة، ولا حتي اتحاداتهم الفيدرالية،ومع ذلك سيجد نفسه واقفاً أمام مجموعة من الأمور الهامة لفت الشرع الحنيف الأنظار إليها وهي : أولاً :أن الله سبحانه وتعالي قد جعل من الضروري ،أن تكون هناك سلطة تقوم علي تسيير أمور الناس وسياستها وتدبيرها ومتابعتها تحقيقاً لمصالحهم الدنيوية، ودرء المفاسد والمهلكات عنهم ، في ضوء مجموعة من القواعد الإسلامية العامة كالعدل والحرية والمساواة واحترام كرامة الإنسان ،والتي بمراعاة تطبيقها يتحقق للجميع المنفعة الدنيوية والسعادة الأخروية ودليل ذلك مايلي : أ_ يقول الله سبحانه في سورة البقرة:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)).فكأن الإفساد في الأرض ،وإهدار حرمة الإنسان وكرامته عن طريق سفك الدماء ،هي من الأمور المنبوذة التي لا يرضاها الأسوياء الأنقياء،يقول بن حيان في تفسيره المعروف بالبحر المحيط موضحاً معني الخليفة الوارد ذكره في الآية : الخليفة هو من يكون نائباً في الحكم ...وأن المراد من استفهام الملائكة قد يكون استفهاماً محضاً، وكأن الملائكة تريد أن تسئل الله وتقول : أتجعل هذا الخليفة (الذي هو آدم عليه السلام) علي طريقة من تقدم من الجن (إذ أنهم أول من أفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء باعتبار كونهم أول من سكنوا الأرض قبل خلق آدم عليه السلام.) . ب _ يقول الله جلً في علاه في سورة ص :(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)) ، ويوضح الإمام الماوردي رحمه الله في تفسيره المعروف بالنكنت والعيون،والإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم معني الخلافة هنا قائلين :أن المراد بالخلافة في الآية الأخيرة إما الخلافة عن الله في الأرض فتكون الخلافة بمعني النبوة ، وإما أن يكون المراد جعلناك خليفة لمن سبقك، فتكون الخلافة هنا بمعني الملك . ويؤكد الإمام الشوكاني في تفسيره فتح القدير علي ضرورة أن يكون في الأرض ، ومن ثم لأي دولة يحيا فوق أرضها شعب حاكم يقيم العدل بين هذا الشعب فيقول : جعلناك خليفة لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فاحكم بين الناس بالحق أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده . ثانياً: أن الشرع الحنيف وإن لم يحدد نظاماً معيناً للحكم مراعياً في ذلك تطور الواقع باختلاف الزمان والمكان ،إلا أنه وضع العديد من الأسس والمبادئ القانونية العامة التي لابد من مراعاتها وتطبيقها من قِبَل كل حاكم بغض النظر عن نظام حكمه ، والتي علي هديها تُوضَع وتُشَرع أنظمة الحكم بكل تفصيلاتها ، ومن أهم تلك القواعد والأسس : مبدأ الحرية، ومبدأ المساواة ، ومبدأ العدالة ، ومبدأ الصلاحية المادية والصلاحية المهنية ، والمتمثلين في مبدأي القوة والأمانة، ومبدأ المسؤلية ،(وسيتم تفصيل مبادئ الحكم في الإسلام في حينها) . ثالثاً : أن الشرع الحنيف وإن لم يحدد نظاماً معيناً للحكم ، إلا أنه لم يرضي من هذه الأنظمة ما قد يكون من شأنه إفساد البلاد ، وتضييع حقوق العباد ،وإسناد الأمور إلي غير أهلها، وحمل الناس بالقوة والقهر والغلبة علي مالا يرضونه ، ويأبي من الأنظمة ما من شأنه أن يجعل الحاكم متجبراً ومتكبراً ومتسلطاً علي الخلق ، لا يريهم إلا ما يري، فإن أبوا سامهم سوء العذاب ، والدليل علي ذلك أنه وإن كان معلوماً وفقاً للأحكام القانونية للعلوم الدستورية أن نظام الحكم ما هو إلا تحديد شكل السلطة العامة ، وكيفية ممارسة الحاكم لهذه السلطات والاختصاصات الدستورية وفقا لنصوص الدستورفإن الشارع الحكيم قد لفت الأنظار إلي بعض النماذج والأشكال التي سادت حكم السابقين من الأمم خاصة في مصر،فمثلا : _ عندما أراد الله سبحانه أن يصف حكم فرعون موسي لم يصفه بالنظام الديكتاتوري ، ولا بالنظام الإستبدادي ، ولا بالنظام المتسلط ، بل جمع كل هذه الصفات في وصف يدل علي مدي ما يحمله من تجبر وتسلط وقهر واستبداد وديكتاتورية ، فوصف نظام حكمه بالعذاب المهين ، فقال سبحانه في سورة الدخان (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) _ ثم جاء الله سبحانه ليؤكد علي طبيعة حكم فرعون السابقة فوصف فرعون نفسه تارة بالخاطئ فقال في سورة القصص :(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) ، وتارة بأنه عال ومسرف ، فقال في سورة الدخان (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)) وتارة بالكاذب ، والظالم ، فقال في سورة القصص :(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39)فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) ، وتارة بالمتكبر الجبار، فقال في سورة غافر(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35).وتارة بالمفسد ، فقال في سورة يونس(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، وتارة بالعدو، فقال في سورة طه (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39). _ ثم يلفت الله سبحانه وتعالي الأنظار إلي نظام حكم آخر سبق نظام حكم فرعون موسي (وتحديداً في فترة تواجد سيدنا يوسف عليه السلام بمصر) وهو نظام الملكية ، التي قام عليها الهكسوس الذين غاروا علي مصر، ويزيد فضيلة الإمام الراحل محمد متولي الشعراوي هذه المسألة توضيحا فيقول في خواطره : (وبعد أن اكتشف العالم الفرنسي شامبليون - حجر رشيد - عرفنا أن الفترة التي دخل فيها سيدنا يوسف مصر، لم يكن الفراعنة هم الذين يحكمون مصر، بل كان الحكام هم ملوك الهكسوس الرعاة، وطمر القرآن هذه الحقيقة التاريخية حين سمى حكام مصر قبل يوسف فراعين، وفي الفترة التي جاء فيها سيدنا يوسف سماهم «الملوك» ، وهؤلاء هم من أغاروا على مصر وحكموها وساعدهم بنو إسرائيل وخدموهم، وقاموا على مصالحهم، وبعد أن طرد المصريون الهكسوس التفت الفراعنة بالشّر إلى من أعان الهكسوس؛ فبدأوا في استذلال بني إسرائيل لمساعدتهم الهكسوس إبّان حكمهم مصر. وأراد الله أن يخلصهم بواسطة موسى عليه السلام، ولذلك يقول الحق على لسان موسى في سورة الأعراف: {وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} . _ ثم يلفت المولي عزوجل الأنظار في موضع آخر إلي نوع ثالث من أنظمة الحكم ، وهو النظام الذي يستخدم سلطاته ، وما أتاه الله من بسطة في أسباب الملك في تحقيق المصالح والمنافع التي ترتقي بالأمم والشعوب لا في الفساد والإذلال، فيقول سبحانه في سورة الكهف حكاية عن ذي القرنين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84).
_ ومن هنا، وبعد محاولة تأصيل مسألة نظام الحكم علي المستوي التشريعي الشرعي ،نؤكد علي أن نصوص الشرع لم تحدد نظاماً معيناً للحكم،لكنها أشارت بوضوح إلي بعض صور الحكم الديكتاتورية المقيتة ، وإلي بعضٍ من الصور التي ارتضاها الشارع الحكيم . ومن ثم لم تكن قصص القرآن الكريم عن أنطمة حكم السابقين وتوضيح بعضها حكايات يتسلي بها الأشقياء، وإنما وكما عبر فضيلة الإمام الراحل محمد متولي الشعرواي أنها تنقل لنا أحداثا في التاريخ. تتكرر على مر الزمن. ففرعون مثلا هو كل حاكم يريد أن يُعْبَدَ في الأرض. وأهل الكهف مثلا هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله. وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل أخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على بعضهم. وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا ومكنه في الأرض. فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله. _ هل تعد الخلافة نظام حكم إسلامي لا يجوز الحيدة عنه ؟ هذا هو عنوان المقال القادم إن شاء الله .
د / محمد فتحي رزق الله _ مدرس مساعد القانون الخاص ، جامعة الأزهر