* حكمة بالغة قليلة في كلماتها وحروفها , لكنها غنية فى معناها , ثرية فى مغزاها, عميقة قوية في فحواها . تلك الحكمة تقول " كيف يستقيم الظل والعود أعوج..!؟" . نعم .. لايمكن للشجرة المائلة المعوجة الآيلة للسقوط أن يستقيم ظلها . لأن الصورة تكون مطابقة للأصل . ولا يمكن أبدا أن يكون المرء مستقيما واعيا قائما على أصوله لا يفرط فى حقه ولا يتنازل عنه ويكون ظله مائلا ومعوجا . كذلك لايمكن أن يكون أي شعب على وجه هذه الأرض مستقيما قويا مطالبا بحقوقه سلميا , ويكون ظله معوجا ومائلا . لأن الشئ من معدنه لايستغرب . فالشعوب القوية الواعية كالشجرة المستقيمة السامقة الشاهقة أصلها ثابت وفرعها فى السماء . أما الشعوب التي ارتضت التنازل عن حقوقها طواعية , فهي كالشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار . إن الشعوب التي فرطت فى حقها من حرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية , كالقيعان لا ينبت مرعاها ولا يثبت ثراها , فهي أرض سبخة ولو أسقيتها بماء الورود , فلن تنبت إلا الشوك والحنظل المر . * إن هناك شعوبا تخلت عن حريتها طواعية مقابل لقمة العيش وكسرة الخبز . فلاهي نالت حريتها , ولاهي شبعت ونالت حقها فى حياة حرة كريمة . فعاشت تلك الشعوب ردحا من الزمن تلحس التراب فى حظيرة العبودية وقلة الكرامة وندرة الشرف والعزة . . لايمكن لكسرة الخبز أن تكون بديلا عن الحرية , وإلا لعاشت البشرية عيشة حيوانية بهيمية غير إنسانية . فالأنعام تآكل وتشرب وتملأ بطونها غير أنها ليست حرة . فهى تعيش تحت لهيب الكرباج ونار السياط . يقول الشاعر : الذليل بغير قيد مقيد.. كالعبد إن لم يسد بحث له عن سيد . فالذليل قيد نفسه وإن لم يقيده أحد لأنه تعود أن يعيش عبدا مملوكا لسيده كالعبد الآبق الذي لايقدر على شئ . كذلك الشعوب التي عاشت فى ظلام كهف العبودية تشعر بالدوخة والدوران والشعور بالتقئ والإسهال أن أشرقت شمس الحرية فجأة على حين غفلة منها .
* إن العبودية ليست قدرا مقدورا على الشعوب . كما أنها ليست مصيرها المحتوم التي يجب أن تؤمن به وترضخ له . نعم.. العبودية ليست قدرا مكتوبا على جبين الشعوب العربية والإسلامية , عليها أن تؤمن بها وأن تجعلها الركن السادس من أركان دينهم الحنيف . لأن الإسلام فى الأصل رسالة حرية وكرامة إنسانية , وهل هناك عبودية أشد وأكبر من العبودية لغير الله..؟ دخل معبد بن خالد الجهني, وعطاء بن يسار على الحسن البصري, وهو يحدث الناس في مسجد البصرة فسألاه: " ياأبا سعيد, إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين , ويأخذون الأموال, ويفعلون, ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله" , فأجابهما الحسن قائلا: " كذب أعداء الله " نعم.. لأن الناس خلقهم الله أحرارا , ولايمكن للمرء أن يعيش مستعبدا بحجة أن هذا قدر الله .
* يقول الراحل مصطفى أمين رائد الصحافة العربية " إن الحياة لا تتوقف أبداً .. إنما تتجدد دائماً , كل شيء فيها يتغير ويتبدل البشر يولدون ويموتون ..الأبنية تشيد وتنهار .. الزهور تتفتح وتتبدل الدول تقوم وتسقط .. كل شيء يتغير .. كل شيء يتبدل إلا معاني بعض الكلمات .. الحرية تبقى دائماً حرية , الطغيان يبقى دائماً طغيان, العدل يبقى دائماً عدلاً , الظلم يبقى دائما ظلماً. ويجيء العادلون والطغاة ويذهبون , ويظهر أنصار الحرية وأعوان الاستبداد ويختفون , وتشرق شمس الديمقراطية وتغيب , ويجثم ظلام حكم الفرد ثم يطل نهار حكم الأمة, ويعلق الأحرار في المشانق ويجلس الظالمون في مقاعد السلطان كل شيء يتغير , يولد ويموت , يكبر ثم يتضاءل . ولكن الشعب دائماً لا يموت "
* نعم .. سيفنى كل من ظلم وطغى صغيرا كان أم كبيرا , حاكما كان أو محكوما على وجه هذه المعمورة , كما فنى الذين من قبلهم على مر التاريخ . لكن ستبقى الشعوب حية مابقى الزمان . وستبقى الشعوب حرة قوية كريمة ما تمسكت بحقها فى الحرية والحياة الحرة الكريمة . نحن نريد الحرية , ولانريد غير الحرية . نريد حرية العقيدة , حرية الرأى , حرية الصحافة . حرية النشر والكتابة والتأليف . حرية النقد الهادف البناء , حرية تنفس نسمات الهواء السياسي الطلق غير المشروط أو المربوط . الحرية أثمن وأغلى شئ فى الوجود ومن ينزعها منا فقد نزع أرواحنا من أجسادنا وجهز لنا أكفاننا وحفر لنا قبورنا . لايمكن لشعب يعشق الحرية أن يعيش مستعبدا ذليلا طيلة حياته .. إذا استقام العود وهو الشعب , استقام الظل ونالت الشعوب حريتها . وبسطت ردائها على أنحاء المجتمع ونفذت أشعتها لتمحو كل آثار الظلم والهوان . الحرية أكبر ضمان لاستقرار أى مجتمع . والعدالة هى الشمس التى يجب أن تشرق على كل أركان الوطن ليتحقق الأمن والاستقرار .