رغم أنهم يعترفون بأن هذه أول انتخابات حرة نزيهة فى تاريخ مصر.. وأن حجم المشاركة الشعبية لم يحدث من قبل، إلا أنهم يصرون على اتهام المجلس العسكرى بتسليم السلطة للإسلاميين محاباة وتواطؤاً أو فى صفقة سرية، ولا يدركون أنهم حين يقولون ذلك إنما يستهزئون بالشعب الذى أعطت أغلبية أصواتها للإسلاميين، وأوصلتهم إلى مقاعد السلطة بكامل وعيها وإرادتها وليس المجلس العسكرى. إخواننا العلمانيون لا يخفون حنقهم على الانتخابات والناخبين، ولكنهم لا يستطيعون الجهر برفض إرادة الشعب حتى الآن، ولذلك فإنهم يخفون حنقهم هذا فى اتهام المجلس العسكرى بتسليم البلد مفروشة للإخوان والسلفيين، وإذا سألتهم عن احترام قواعد اللعبة الديمقراطية واحترام إرادة الشعب وصندوق الاقتراع، جعلوا أصابعهم فى آذانهم وأصروا واستكبروا استكبارا. كأن الديمقراطية وضعت من أجلهم، ولو جاء الشعب بهم لتغنوا بأمجاد الحرية والانتخابات، لكن إذا جاء بغيرهم فإن الديمقراطية تنقلب على النقيض، وتصبح مشوهة ولا تعبر عن جوهر الإرادة الشعبية ولابد أن يكون قد مسها شىء من الزيف والكذب والتلاعب قبل أن تصل إلى صندوق الاقتراع. ومنذ اللحظة الأولى لنجاح الثورة وفى أول اجتماع للمجلس العسكرى مع مجموعة من الكتاب والمثقفين انبرى أحد دهاقنة العلمانية بسؤال ماكر إلى القائد العسكرى الذى يدير الجلسة قائلا: كم واحدا فيكم إخوانياً؟؟.. وفهم الحاضرون كما فهم القائد العسكرى أن هدف السؤال هو الابتزاز والاستفزاز وتحذير المجلس مبكرًا بأنه تحت المراقبة وأى تقارب له مع الإخوان أو غيرهم من الإسلاميين مرصود.. مرصود لكن القائد العسكرى قابل الموقف بهدوء مؤكداً: نحن نقف على مسافة واحدة من كل الأحزاب والتيارات. وبسبب حساسية غير مبررة لدى المجلس العسكرى – ربما لكى لا يتهم بأنه إسلامى أو إخوانى كان حرصه واضحًا على ألا يقترب من أى رمز أو حزب إسلامى، وإذا اقترب من أى رمز فآلة الهجوم العلمانية جاهزة، ولعلنا لا ننسى هنا ما تعرض له المجلس حين وضع المستشار طارق البشرى على رأس مجموعة وضع التعديلات الدستورية التى عرضت للاستفتاء ووضح صبحى صالح عضوا بها.. وعمل المجلس العسكرى بالنصيحة ولا أقول بالأمر والتوجيه، وقد بدا ذلك واضحا عندما اختار وزراء المرحلة الانتقالية من الوفد والتجمع والحزب الوطنى المنحل وأى تيار آخر بعيدا عن الشبهة الإسلامية. والغريب أن القوى التى تدعى قيادة الحراك الثورى، والتى جاءت بالدكتور عصام شرف رئيسا للوزراء وسرعان ما ألصقت به تهمة الانتماء الإسلامى لأنه لم يكن على المستوى المطلوب فى انحيازه إليهم، هو بالفعل كان منحازا لكنهم أرادوا انحيازًا كاملا مائة بالمائة. وفى كل الألاعيب السياسية التى مرت بنا خلال المرحلة الانتقالية كان الهدف واضحا وهو الالتفاف على كل ما له صلة بالإسلاميين واستبعادهم أو استبقاؤهم، حدث هذا من خلال مؤتمرات د. يحيى الجمل ووثيقة السلمى والمظاهرات والاشتباكات التى سبقت إجراء الانتخابات رغبة فى تعطيلها أو إلغائها.. ولا ننسى هنا أن محمد عبد المنعم الصاوى مثلا قد استبعد من وزارة الثقافة فقط لمجرد الاشتباه فى انتمائه الإسلامى.. ولأنه لا يسمح بالعروض الراقصة العارية على مسرح ساقية الصاوى. وحتى شيخ الأزهر المبجل،عندما أراد أن يصدر وثيقة للتوافق حول المرجعية الإسلامية دعا للحوار معه رموز التيار العلمانى المتشدد ولم يشرف أحد من الإسلاميين بحضور الحوار والمشاركة فى الوثيقة، ثم تكرر النهج ذاته مع حوار وثيقة الحريات. والخلاصة أن الأغلبية الكاسحة فى الصحف القومية والحزبية والمستقلة والخاصة وفى التليفزيون الرسمى والفضائيات الكثيرة جدا وضيوف البرامج والحوارات والندوات والمؤتمرات هى للعلمانيين والليبراليين، هم الذين يتحدثون ويصرخون على الشاشات ليل نهار، وعلى صفحات الجرائد والمجلات.. ومع ذلك فاز الإسلاميون بالأغلبية فى الانتخابات وسط مناخ معاد ومناوئ ورافض بشدة لأفكارهم ورؤاهم.. ورافض بشدة للانتخابات التى جاءت بهم وللناخبين وللمجلس العسكرى، الذى أصر على إجراء الانتخابات فى موعدها. وللأمانة التاريخية فإن المجلس العسكرى لم يكن راغبا فى أن تذهب الأغلبية بهذا الشكل للإسلاميين، لكنه احترم التزامه بعدم التدخل وإجراء انتخابات حرة نزيهة وتاريخية تكشف لأول مرة عن توجه الشعب المصرى، وحاول المجلس العسكرى مرارا البحث عن أساليب للتوازن فى الإرادات من خلال د. الجمل ود. السلمى والمجلس الاستشارى لكن الإسلاميين كانوا دائما ضد أية محاولات تنتقص من دور المؤسسات الديمقراطية، ووصل بهم الأمر إلى الانسحاب من المجلس الاستشارى بعد أن استشعروا أن هناك خطة للتدخل فى اختيار الجمعية التأسيسية للدستور مما أغضب المجلس العسكرى، لاشك. وكثيرا ما أثيرت شائعات عن الصدام القادم بين الإسلاميين والمجلس العسكرى فلما لم يحدث الصدام أثيرت شائعات أخرى فى الاتجاه المعاكس بأن هناك صفقة بين الإسلاميين والمجلس العسكرى، واتخذ من تعبير (الخروج الآمن) لأعضاء المجلس العسكرى أداة لتشويه الإسلاميين جميعا مع أن الذى أطلق هذا التعبير نفى تمامًا إسباغ أية حماية قانونية على أية أخطاء تتعلق بالقتل والدم، مؤكدا أن هذا أمر لا حصانة لأحد فيه. ولو عدنا قليلا إلى الوراء فسوف نكشف أن التيار الليبرالى هو الذى ضغط على المجلس العسكرى لمد الفترة الانتقالية حتى تستعد الأحزاب الجديدة والأحزاب الشبابية للانتخابات، وهو الذى رفع شعار بقاء المجلس العسكرى فى السلطة لحماية الدولة المدنية والحيلولة دون الانقلاب على الدستور ودولة القانون وتحويل مصر إلى دولة دينية شمولية فاشية.. وكتب منظوره ألف عام فى ظل الحكم العسكرى ولا يوم فى حكم الإسلاميين. والآن يقولون: يرحل المجلس العسكرى ويتولى رئيس مجلس الشعب إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، ولا يدركون أن رئيس مجلس الشعب القادم سوف يكون إسلاميا معبرا عن الأغلبية البرلمانية وأنهم بما يقولون يضعون السلطة كلها فى يد الإسلاميين.. أم أن المسألة عبارة عن لعبة توريط.. وعناد لا آخر له؟! لا يريد إخواننا العلمانيون أن يفهموا أن الشعب المصرى اختار من يمثله حقا، لأنه أراد أن يعود لذاته، لدينه وقيمه وتاريخه وثقافته.. ولابد من احترام هذه الإرادة وكفانا غربة وتغريبا.