ألف سلامة على القلب الكبير الأنبا موسى (أسقف الشباب بالكنيسة القبطية) فى وعكته التى لم تصب قلبه فقط بل قلوب المصريين جميعًا.. فالأنبا موسى له مكانة خاصة جدًا لدى المثقفين وغير المثقفين فغير فكره وثقافته الواسعة هو حالة جميلة تذكر المصريين بالراحل الكبير الأب متى المسكين (1919-2006م) فخر الكنيسة المصرية علمًا وعملاً وصاحب الكتاب الشهير (حياة الصلاة الأرثوذكسية) الذي ترجم إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية.. وأيضًا يذكرنا ببابا المصريين (البابا كيرلس السادس - البابا 116) بطيبته الآسرة وروحانيته وظلال السلام التى كان يظلل بها الكنيسة والوطن. يقولون إن الأنبا موسى امتداد علمي وروحي للأب متى المسكين.. وهو ما يؤكد لدينا اليقين بأن مصر الولادة لا تعدم ولا تخلو من الرجال الكبار المفعمين بالحنان المترعين بالمحبة. لا أذكر متى وأين قال هذه الكلمات وهى كلمات ليست من ذهب بل ما هو أرقى وأنفس من الذهب لكنى أذكر جيدًا كم خفق قلبي فرحًا وكم غمرت نفسي أطياف السعادة.. كما يقول المحبون: نحن الأقباط لا نشعر أننا أقلية لأنه ليس بيننا وبين إخوتنا المسلمين فرق عرقي فكلنا أقباط يجرى فينا دم واحد من أيام الفراعنة.. ونحن بالفعل لا نشعر بشعور الأقلية البغيض الذي يعانى منه غيرنا. الأقباط دورهم تقلص فى الحياة العامة بعد ثورة 52 كجزء من التقلص الشامل في المشاركة العامة بمصر فقد كانت هناك سلبية شاملة. نحن نرفض (المسيحية السياسية) لأن السيد المسيح قال مملكتي ليست بهذا العالم ولو حدثت المسيحية السياسية تكون انتكاسة على المسيحيين. تقسيم مصر فكرة مستحيلة وغير مسيحية ولو فكرنا فى ذلك معناه أننا نجهز أنفسنا للإبادة إنها فكرة غبية صهيونية من أجل تفتيت مصر. ……………………… أقباط مصر ليسوا أقلية وما كانوا فى يوم من الأيام ولن يكونوا.. فهم قطعة من ذات الوطن وصدق الأنبا موسى فى قوله إننا كلنا أقباط يجرى فينا دم واحد من أيام الفراعنة.. صحيح أنه حدثت هجرات كثيرة لمصر على مدار التاريخ قبل الفتح العربي وبعده ولكن يبقى الوعاء العرقي للمصريين واحدًا فحتى من لم يكن مصريًا نقيًا فهو قد تمصر بالطباع والسلوك بل وبالنسب والاختلاط. يحفظ تاريخ الحركة الوطنية (وقت ما كان لدينا حركة وطنية!) فى أروع صفحاته رفض المصريون جميعًا لأن يكون أقباط مصر أقلية.. كتبت كثيرًا عن الشرف والوفاء الذي يحمله المصريين للكنيسة القبطية التى رفضت الانضواء تحت الحماية الروسية فيما عرف بمعاهدة (كينارجي) التى قامت بين الدولة العثمانية وروسيا يكون لروسيا بمقتضاها حق حماية المسيحيين الأرثوذكس من رعايا الدولة العثمانية لكن الكنيسة المصرية العظيمة _كنيسة مارمرقص الرسول _رفضت بقوة وحزم هذا الإشراف وكان هذا فى وقت بطريركية الأنبا بطرس السابع (البطريرك109) الذي اشتهر باسم الجاولى نسبة لقريته فى صعيد مصر.. فذهب محمد على وابنه إبراهيم باشا إلى الكنيسة لشكر البابا فقال له البابا: لا تشكرني عن واجب قمت به نحو البلاد.. فقال له محمد على لقد رفعت اليوم شأن كنيستك وشأن بلادك فليكن لك مقام محمد على فى مصر.. ومنذ ذلك اليوم ازداد مقام البابا عند محمد على باشا وعظمت ثقته بأبنائه الأقباط. دائما ما يذكر الأنبا موسى باحترام وإكبار أن المسيحيين لا يشعرون بشعور الأقلية البغيض الذى يعانى منه بعض الأقليات.. وقد كانت هناك محاولات كثيرة لإدراج أقباط مصر ضمن الأقليات فى الوطن العربى تحميهم المظلة الدولية وهو ما رفضه المصريون جميعًا منذ إعلان 28 فبراير 1922م بعد رفع الحماية البريطانية عن مصر.. وستظل الجماعة الوطنية مدينة لأقباط مصر بهذا المفهوم المقدس عن الدين والوطن والأمة. لكن هذا لا يمنع من القول بأننا كمسلمين علينا أن نفتح صدرونا أكثر وأكثر لإخوتنا الأقباط.. وأن نأخذ بأياديهم معنا نحو المستقبل.. صحيح أن مياهًا كثيرة جرت من تحت الجسور بعد ثورة 25 يناير وأحداث 3 يوليو.. لكن عمق وصلابة التأسيس للجماعة الوطنية هو الأصل فى علاقات المصريين. ذكر الرجل أن سبب ابتعاد المسيحيين عن الحياة العامة هو تلك السلبية العارمة التى انتشرت فى مصر بعد ثورة 52 حيث الكآبة الثقيلة والخطوات الساحقة التى أعقبتها.. فالثورة لم تكتف بتأميم الأملاك فقط ولكنها أممت مصر كلها.. وهو الأمر الذي تسرى أثاره إلى الآن في كل ربوع الوطن الحبيب.. المصريون محرومون من السياسة لأن جمهورية يوليو.. لا تراهم جديرين بتحمل أعباء المشاركة السياسية ككل أحرار العالم.. ولازال المصريون يناضلون بحقهم الطبيعي فى المشاركة التامة فى تحمل مسؤوليات الوطن.. عبر كل الوسائل الإصلاحية والسلمية وهو اليوم الذى نقترب منه ويقترب منا إن شاء الله. يرفض الأنبا موسى تعبير (المسيحية السياسية) لأنها تتناقض مع مفهوم الدين المسيحي.. (مملكتي ليست بهذا العالم).. ولعل هذا التعبير أخذ تجلياته البارزة من أحاديث غبطة الراحل البابا شنودة الثالث فالرجل كان سياسيًا بالغريزة محب للثقافة واللغة وهو شاعر مطبوع وكان يلقى الشعر فى ِشبابه أمام مكرم عبيد باشا فى مقر الوفد فى شبرا فى الأربعينيات لكن المصريون لم ولن ينسوا مقولته التاريخية (نتوق للعيش فى ظل –لهم ما لنا وعليهم ما علينا- ليس عندنا ما فى الإسلام من قوانين مفصلة فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بالإسلام). ستعود الكنيسة المرقصية على ما كانت عليه شأنًا روحيًا خالصًا.. لكن الجميع معذورون فى ظل الاستثناء الكبير الذي أكرهت جمهورية يوليو المصريين على العيش فيه والتكيف معه على مضض. فى الثمانينيات صدرت دراسة بعنوان (مصر فى القرن21 ).. قدم لهذه الدراسة المهمة الراحل د. أسامة الباز وصدرت عن مركز الأهرام للترجمة والنشر.. تضمنت فى فصولها بحثا مهما للمفكر الراحل المستشار وليم سليمان قلادة (1924/1999م) بعنوان (الأقباط من الذمية إلى المواطنة) .بدأه بتقديم رؤية عامة للتاريخ المصري من القرن الأول الميلادي حتى دخول الإسلام.. قبل الإسلام كان المجتمع المصري مقسوم أفقيًا بين حاكمين ومحكومين ثم بعد دخول الإسلام زاد على التقسيم الأفقى تقسيم رأسى يقوم على التعددية الدينية وتداخل التقسيمان الدينى والسياسى فيما يعرف بالكيان المصرى الذى تفاعلت فيه الجغرافيا مع التاريخ مع البشر وحدث التعايش الوئامى بين أتباع مطلقين (حيث الإيمان يمثل المطلق الذي يستبعد الأخر)..ليس من دائرة وجودة ولكن من دائرة إيمانه.. وهكذا حدث ما يمكن تسميته (بالحياة المشتركة).. التى تستند إلى القيم الواحدة والمصير الواحد. وعلى هذه المقومات والأسس تشكلت حركة المجتمع المصرى عبر التاريخ_ كما يوضح د .قلادة_ فقد أخذ التقسيم السياسى يستوعب التقسيم الدينى وبتأثير الحركة العامة للجماعة الوطنية تجاوز المسلمون والأقباط هذا التقسيم وانطلقا معًا إلى ما يمكن تسميته (فقه المواطنة) وبدأ المحكومون مسلمين وأقباط حركة مشتركة لاختراق حاجز السلطة والجلوس على كراسي الحكم.. وهكذا أتى الاختراق المشترك لحاجز السلطة كواقعة تاريخية تكتمل بها الحقيقة المصرية وتعبر بدقة عن مقومات الكيان المصرى.. وهكذا دخل المسلمون والمسيحيون معًا مجال المواطنة والحكم والسياسة، ويستكمل د .قلادة: ثم تأتى لحظة الحق فى تاريخ مصر الحديث حيث صدر دستور 1923 مستوعبًا ما سبقه من دستورين صدرا فى عهد إسماعيل وتوفيق.. مقررا بصفة حاسمة مبدأ (المواطنة) أساسا للحياة السياسية والدستورية سواء على مستوى المشاركة أو المساواة. وسادت مصر ما يمكن تسميته بالأخلاق الدستورية... (أين أنت يا أمسى؟) هذه هى الخلفية العامة التى تحركت فيها الجماعة الوطنية عبر التاريخ. تحدث الرجل عن تقسيم مصر ووصفه بأنه فكرة صهيونية.. والدولة الصهيونية لا تفتأ تذكر هذه الأمنية بإلحاح على لسان خبرائها الاستراتيجيين.. ولكن هيهات وأم هيهات كمان (وما أخذه نابليون وكرومر يأخذه من يهددنا بسوريا والعراق!).. ليست مصر التى تقبل القسمة على اثنين أيها السادة.. مصر لم تكن يومًا ولن تكون متنافرة الأعراق فمن يستطيع أن يفرق بين المسلم والمسيحي فى الحارة والشارع والقرية والنجع سواء فى الملبس أو فى الملامح (السحنة) أو فى الطباع أو العادات والتقاليد؟ واقرؤوا كتاب مصر الحديثة لكرومر وطالعوا قدر اليأس الذي أصابه من هؤلاء الذين يمشون فى الطرقات فى سلام يفعلون الخير ويعيشون شرفاء ثم لا يلبث أحدهم أن يدخل مسجد والآخر يدخل كنيسة.. ألف سلامة غبطة الأنبا وترجع لنا ولمصر بالسلامة (يعالج الآن فى لندن).. وألف تحية لإخوتنا الأقباط فى العام الميلادي الجديد.. وبمناسبة عيد الميلاد.. وكل عام ومصر كلها بخير.. وكل من أعطى كثيره ينتظر الكثير.