مرت على جماعة الإخوان المسلمين أكثر من 87 عامًا ، التي توصف بالتنظيم السياسي الأكبر في مصر؛ بمكاسبها وخسائرها، وانشقاقاتها، ما بين السجون والمعتقلات وكراسي البرلمان، وأخيرًا ولمدة قصيرة، كرسي رئاسة جمهورية مصر العربية، عبر ما توصف بأوّل انتخابات نزيهة أسفرت عنها ثورة 25 يناير 2011. وتواجه الجماعة الآن بواحدة من أشد أزماتها منذ عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، بل إن البعض يرى أن أزمة الجماعة مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، أشد وطأة عليها من سابقتها، مع وجود أكثر من 50 ألف معتقل في السجون ، السواد الأعظم منهم ينتمون للجماعة شبانًا وشيوخًا، وقيادات من كافة الصفوف. والجميع يعلم بوجود انقسام داخل الجماعة شواهده واضحة، لكن تفاصيل أسبابه ما زالت غامضة بقدر غموض الموقف الإستراتيجي السياسي والحركي للجماعة من أزمتها الكبرى مع النظام المصري الحالي ،ولا يبدو أن أيًا من طرفي أزمة الإخوان الداخلية يرغب في الإفصاح تمامًا عن التفاصيل الغائبة. في المُقابل، أوضح موقع ساسة بوست نقلا عن شريحةً من أعضاء الجماعة في مصر، الذين يُمثّلون قاعدتها التنظيمية، لا يعلمون كثيرًا عن الأزمة وأسبابها، وليست لديهم سوى المعلومات التي يتلقونها من وسائل الإعلام وهو أحد هؤلاء هو "أ.عبدالرحمن" شاب في منتصف العشرينيات من محافظة الدقهلية. وأضافت ساسة بوست خلال حديثهامع عبدالرحمن بدت معلوماته عن الأزمة مشوشة فضلًا عن كونها قاصرة، فعلى سبيل المثال، كان عبدالرحمن يظن أنّ جميع المكاتب الإدارية في مصر "اجتمعت على قلب رجل واحد" متمثل في جبهة محمد مُنتصر، رغم أن المكتب الإداري الذي ينتمي إليه عبدالرحمن (إخوان الدقهلية) قد أعلن تأييده لجناح مكتب لندن والقيادات التاريخية. وفي هذا الصدد يُشار إلى أنّ محمد عبدالرحمن عضو مكتب الإرشاد المحسوب على جناح مكتب لندن هو من أبناء محافظة الدقهلية وكان أحد قيادات الجماعة بها، كما يُشار إلى أن محمد مُنتصر نفسه لم ينفِ أن محمد عبدالرحمن هو مسؤول اللجنة الإدارية العليا! وتضم الجبهة التي يُمثّلها محمد منتصر كلًّا من عضو مكتب الإرشاد محمد كمال (تجمدت عضويته مُؤقتًا) والذي كان مسؤولًا عن اللجنة الإدارية العليا قبل تنحيته وتسليم المسؤولية لمحمد عبدالرحمن، بالإضافة إلى قيادات الجماعة فيما يُعرف بمكتب الخارج، ومقره إسطنبول، ويتولى مسؤوليته أحمد عبدالرحمن. وبين هذه الجبهة والجبهة الأخرى بقيادة القائم بأعمال المرشد العام محمد عزت، الذي لا يُعلم محل إقامته على وجه التحديد؛ ثمّة قيادات يسعون نحو حل الأزمة، بينهم جمال حشمت المقيم بشكل أساسي في تركيا. وكان جمال حشمت قد أصدر بيانًا عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، في 15 ديسمبر، نفى فيه وجود انشقاقات داخل جماعة الإخوان، واصفًا ما يحدث ب"تمايز الصفوف"، مُؤكدًا على أنّ “من تمرد على قيادة الداخل (المصري) فليس منّا، ومن أطاع أفراد وأهدر رأي الجماعة والمؤسسية، فليس منا، ومن أهان كبراءنا وسخر من مشايخنا فليس منا” دون أن يذكر أسماء أو يحدد أطراف. ولدى جماعة الإخوان المسلمين في مصر تاريخ طويل مع الانشقاقات منذ السنوات الأولى للجماعة، حتى قبل أيام قليلة، بدايةً من حركة "شباب محمد" التي انشقت في 1939، ويُقال إن ذلك حدث على خلفية قبول مؤسس الجماعة حسن البنا تلقي دعمًا ماليًا من هيئة قناة السويس المدارة من الإنجليز وقتها. ثم في عام 1947 وقبل مقتل البنا بعامين، انشق وكيل المرشد عن الجماعة، مُؤسسًا جمعية "الإخوان المجاهدون الأحرار". وهكذا على مدار العقود التالية، مع كل مرشد جديد تأتي حملة انشقاقات أو فصل لأعضاء بالجماعة يُقال إنّهم خالفوا اللوائح. وكانت من أشهر حوادث الانشقاق، ما حدث عام 1996 في عهد مرشد الجماعة الخامس، مصطفى مشهور، حين بدأ أحد أعضاء مجلس شورى جماعة الإخوان بالسعي نحو تأسيس حزب سياسي، الأمر الذي لاقى استهجانًا بين قيادات الجماعة، فتقدم العضو باستقالته هو وآخرون؛ ليؤسسوا حزب الوسط. هذا العضو كان أبوالعلا ماضي زعيم الحزب حتى الآن. وفي عام 2009 وعلى خلفية انتخابات مكتب الإرشاد التي أطاحت بعدد من رموز الجماعة الذين شككوا بدورهم في نزاهتها، تقدم نائب المرشد السابق محمد حبيب باستقالته، ليتحول إلى واحدٍ من ألد أعداء الجماعة. ثم عقب ثورة 25 يناير 2011، شهدت الجماعة موجة استقالات عاتية مصحوبة بقرارات فصل كثيفة، شملت عددًا كبيرًا من كوادرها الشباب، بعضهم كان في ائتلاف شباب الثورة. ويرى البعض أن قرارات الفصل المصحوبة بموجة استقالات واسعة، تأتي في سياق عدم قدرة الجماعة على استيعاب التغيّر الذي حدث للخطاب السائد سياسًّا واجتماعيًّا وثقافًّيا. أيضًا ممن شملتهم قرارات الفصل، القيادي السابق بالجماعة، وزعيم حزب مصر القوية، عبدالمنعم أبوالفتوح، وذلك على خلفية إعلانه عزمه على الترشح لانتخابات الرئاسة. وعلى كل حال فإن قرار فصل أبوالفتوح جاء بعد سنوات من إبعاده عن دائرة صنع القرار داخل الجماعة، والتي اعتاد منذ أواخر السبعينيات أن يكون عضوًا فاعلًا فيها. ورغم إصرار طرفي الأزمة الداخلية الحالية على رفض توصيف ما يحدث ب"الانشقاقات" داخل الجماعة، إلا أن البعض يتجاوز طرح الانشقاقات إلى ما هو أبعد من ذلك، بالحديث عن انهيار مُرتقب للجماعة في ضوء حالة القمع الأمني غير المسبوقة، الممارسة على الجماعة وأعضائها من قِبَل النظام المصري الحالي مدعومًا بأنظمة عربية، أبرزها الإمارات والمملكة العربية السعودية. ولا يتوقف القمع الأمني عند حدود الاعتقال أو القتل فقط، بل يتجاوزه إلى تجفيف الموارد الاقتصادية للجماعة وأفرادها أو أي مُقرّب منها، الأمر الذي أثر على ما يُسميه أعضاء الجماعة وأنصارها ب"الحراك الثوري المناهض للانقلاب العسكري” في الشارع المصري. ووفقًا لما أطلعنا عليه نجل أحد نواب الإخوان في برلمان 2012 (رفض ذكر اسمه للظروف الأمنية) فإن الأموال المرسلة من أعضاء الجماعة في الخارج، بخاصة ما أسماه بمكتب الإخوان في السعودية، تم تحديدها بدرجة كبيرة خلال الفترة الماضية، وأصبح أعضاء الجماعة في الداخل، بمن فيهم أهالي المعتقلين، يعتمدون على أنفسهم بدرجة كبيرة لتوفير الموارد اللازمة لرعاية المعتقلين من أبناء الجماعة. وعلى كل حال، وكما يقول الكاتب الفلسطيني الباحث في العلوم السياسية، أسامة أبو أرشيد، فإن "عملية السحق التي تعيشها الجماعة في مصر، هزت أسسها التنظيمية، وخلخلت هياكلها المؤسسية، وشتت أطرها القيادية وقواعدها التنظيمية". ويُحيلنا تناول الأزمة الداخلية للجماعة من هذا الجانب، إلى الحديث عن المحددات الأيديولوجية للجماعة التي لا يمكن فصلها عن الإطار البنيوي-التاريخي للتنظيم المتضخم. لدى جماعة الإخوان المسلمين مقدرات التنظيم الحزبي الهرمي بصورته الشيوعية التقليدية، مع فارق في الأيديولوجيا والتناسق الطبقي الذي يُمكن رؤيته بوصفه أحد أهم مسببات الأزمة. هذا النسق الهرمي التراتبي، فضلًا عن أنه يُكرس للعزلة المجتمعية، فهو أيضًا يُساهم بدرجة كبيرة في عدم تسريب ما يدور داخل أروقة الجماعة بصورة دقيقة. على سبيل المثال، في الوقت الحالي تتداول صحف ووسائل إعلام ونشطاء مقربون من الجماعة، أن سبب الأزمة الداخلية ربما يتعلق بخلاف حول استراتيجية التعامل مع النظام المصري الحالي، بين طرفين، يرى أحدهما (جناح محمد منتصر) ضرورة اللجوء لما تُسمى بالعمليات النوعية، فيما يرى الآخر (جناح القيادات التاريخية أو ما صار يعرف بمكتب لندن) ضرورة الالتزام بالسلمية كخيار استراتيجي يوسم بالسلبية على لسان بعض أنصار الطرف الأول. من جانب آخر، يرى صحافيون مهتمون بشؤون الحركات الإسلامية، أن مسألة اللجان النوعية قد لا تمثل النقطة الأساسية في الصراع الحاصل داخل جماعة الإخوان في مصر، وهو ما يبدو رأيًا أقرب للصواب إذا ما وضع في الاعتبار أن: 1. كلا الطرفين لا يقتربان في حديثهما عن مسألة الخيار الإستراتيجي باعتبارها محل نزاع بينهما. كما أنّ الأنباء المترددة من أنصار جبهة محمد مُنتصر، القائلة بسعي جبهة مكتب لندن نحو المصالحة مع النظام المصري، لا تبدو صحيحة إذا ما قورنت بتصريحات محمود حسين على قناة الجزيرة، حين سأله المذيع عما إذا كانوا سيقبلون بالتسوية مع النظام، ليجيب حسين نصًا: "نحن لا نقبل إلا بإرادة الشعب. لا نقبل إلا بالشرعية. نحن لا نقبل أن يظل العسكر هم المهيمنون على المشهد في مصر"، مُؤكدًا على أنَّ "الوقت والواقع لم يتخطيا محمد مرسي ولا الشرعية". 2. لا تبدو أن ما تسمى بالعمليات النوعية، الفاعلة منها على وجه التحديد، كانت تتم تحت إدارة تنظيمية مباشرة من الجماعة، قبل أن يخفت ضجيجها بشكل شبه كامل، إذ تكشف تحقيقات بينها تحقيق أجراه موقع "مدى مصر" أن مُعظم منفذيها إما شباب على هامش الجماعة أو مناهضين بطبيعة الحال للنظام المصري، أو شباب خرجوا من عباءة الجماعة بشكل كامل، وقاموا بتنظيم أنفسهم ذاتيًا. 3. بتسلسل الأحداث على مر أكثر من عامين، منذ 3 يوليو 2013 واعتصام رابعة العدوية حتى الآن، لا تكشف تحركات الإخوان على أي مستوى، عن وجود إستراتيجية منهجية واضحة للتعامل في أزمتها مع النظام المصري. يُضاف إلى ذلك فشل المشاريع التي أنشأتها الجماعة في محاولة لتدارك الموقف، بدايةً من التحالف الوطني لدعم الشرعية مرورًا بغيره من التحالفات والمجالس التي أنشئت داخل مصر وخارجها، نهايةً بوسائلها الإعلامية وآخرها قناة مصر الآن التي يبدو أنها أغلقت للأبد. فضلًا عن أن الجماعة يبدو أنها تخسر بالتدريج دعم حلفائها لها، كما تخسر حياد المحايدين تجاهها وأزمتها مع النظام المصري، كما هو الحال أخيرًا مع بريطانيا التي أصدرت تقريرها حول الجماعة الذي اعتبر أن الارتباط بها يعتبر مُؤشرًا ممكنًا على التطرف. وأختتم موقع ساسة بوست تقريره بأنه لا يبدو أن أزمة الجماعة تتعلق بخلاف على استراتيجية غير موجودة كما يتضح، بقدر ما أنه خلاف إداري، أو كما يحب البعض تسميته بصراع على المناصب، مع اتهامات مُبطّنة لبعض أفراد أحد الطرفين بالفساد المالي، وهو ما إن ثبت صحته، قد يكشف أبعادًا أخرى في الأزمة التي تكاد تودي بالجماعة المفككة بطبيعة الحال. وتساءلت ساسة بوست بشأن ما سيحدث من انشقاقًا تعهده الجماعة، أم سردية تقليدية لانهيار التنظيم العجوز؟ لافتة إلى أن هذا ما ستكشف عنه الأيام، لكن ما يبدو واقعًا لا مفر منه أن هذه الأزمة في كل الأحوال ستترك أثرها الواضح على جماعة الإخوان المسلمين في مصر.