لا شك في أن الاحتفال الضخم الذي شهدته العاصمة الجزائرية بعودة الرئيس بوتفليقة من رحلته العلاجية التي استمرت خمسة أسابيع في فرنسا له ما يعنيه على مستوى الشعبية التي بات يحظى بها الرجل في الجزائر، و لكن هذا أيضاً يعني أموراً أخرى كثيرة أهمها بكل تأكيد تلك الأسئلة التي أثارتها الوضعية الأخيرة للرئيس عن طبيعة النظام السياسي القائم و نجاعة مؤسساته. بعد أن أُعلن عن نقل الرئيس بوتفليقة على جناح السرعة، إلى أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس من خلال بيان مقتضب صادر عن الديوان الرئاسي يوم السادس و العشرين من شهر نوفمبر الماضي، و تلتها فترة لم يتسرب عن تفاصيلها أي معطى يبدّد الشكوك التي رافقت خضم الزحمة الإعلامية المتضاربة بشأن الوضعية الحقيقية للرئيس الجزائري، و التي بلغت حتى درجة الإعلان عن وفاته من قبل جهات فرنسية. أُعلن يوم 5 ديسمبر أن الرئيس خضع لعملية جراحية لوقف نزيف قرحة معدية، و أن الأمر يتطلب الخضوع لنقاهة إلزامية لا تقل عن بضعة أسابيع أخرى طويلة امتلأت بأخبار تنعى "فخامته". حينما حطت الطائرة الرئاسية على مطار العاصمة في آخر أيام العام المنصرم، وجد الرئيس بوتفليقة أن عشرات ألوف الجزائريين قد جاؤوا من كل جهات البلاد ليستقبلوه تحت سماء غلب عليها اللون الرمادي، و جو شديد البرودة، زيادة على أن أغلب هؤلاء "المستقبلين" كانوا قد تحدوا قبل هذا و ذاك، ظروفاً أمنية غير مستقرة بعد . من المؤكد القول: إن الأسابيع الخمسة الأخيرة من العام المنصرم سوف لن تكون فترة عادية في الذاكرة العامة للجزائريين في هذه المرحلة التي تلت سنوات الدم و الدموع، فهي و إن كانت قد أثبتت الشعبية الكبيرة للرئيس بوتفليقة، إلا أنها في الواقع لم تحمل أي جديد قد يهم المتابعين، فهذا الرجل ما انفك يحقق الانتصارات الانتخابية سواء تعلق الأمر بالاستحقاقات الرئاسية أو بتلك الاستفتاءات التي نظمها و طلب فيها رأي الشعب بخصوص سياسته نحو تحقيق المصالحة الوطنية، و هذا ما من شأنه أن يفسر لنا ذلك القلق الذي لازم عموم الجزائريين إزاء الأنباء المتضاربة التي أوردتها الجهات الأجنبية، و الذي إن دل على شيء فإنه يدل في حقيقته على أن البلاد-و على الرغم من أن احتياطي الصرف فيها بلغ قيمة (56) مليار دولار مثلما تقول الجهات الرسمية- لا تزال بعد بحاجة إلى هذا الرجل؛ لأن إحساساً عاماً يطبع مخيلة كل الجزائريين مفاده أن كل ما تحقق حتى الساعة معرّض للزوال لو أن هذا الأخير أصابه أي مكروه. الاحتفال الحار الذي حظي به بوتفليقة في 31 من ديسمبر الأخير هو بداية، فعل غير مسبوق في طبيعته، فإذا كانت البلاد منذ استقلالها في 1962 قد عرفت -و لثلاث مرات- غيابات من هذا النوع إلا أنها لم تعش في الواقع، قبل اليوم، أجواء كهذه التي عرفتها مع عودة الرئيس بوتفليقة. في العام 1978، اختفى الرئيس الأسبق هواري بومدين عن الأنظار لفترة جاوزت عدة أسابيع قبل أن يظهر فجأة في موسكو متحدثا مع ليونيد بريجنيف و بعض من أعضاء المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفييتي. لقد أظهرت تلك الصور للجزائريين، رئيساً يحاول اصطناع الابتسامة على وجه بدت عليه كل علامات الألم و المرض ليعود بعدها إلى الغياب، و يُعلن في وقت لاحق أنه طريح على سرير مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة الجزائرية في حالة ميئوس منها لم يخرج منها حتى أُعلن يوم 27 ديسمبر عام 78 أنه فارق الحياة. في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، أُعلن أيضا أن خلف بومدين، الرئيس بن جديد قد تم نقله إلى بلجيكا التي كانت تربطه بملكها السابق علاقات صداقة شخصية، لكي يخضع لعملية جراحية بسبب "فتق"، ثم لم يتم الإعلان بعد هذا عن أي شيء؛ لأن العملية أُجريت في أجواء سرية، و تلتها عودة إلى الجزائر في ظروف أكثر سرية، و الطائرة الرئاسية التي كان يستقلها الرئيس بن جديد حطت على مدرج مطار بوفاريك العسكري في ضواحي العاصمة . الحالة الثالثة تتعلق بالرئيس السابق للجمهورية، الأمين زروال الذي نُقل في العام 1996 إلى برشلونة الإسبانية لأجراء جراحة لإحدى عينيه، مثلما تقول الرواية الرسمية، و لكن الجديد في هذه المرة مفاده أن الأمر لم يُعلن عنه البتة، و عاد "زروال" بعدها من غير أن يكون أحد في استقباله بطبيعة الحال؛ لأن القضية ربما كانت في ذهن كبار مسؤولي الدولة عندنا تدخل في نطاق "سري للغاية". ما سبب هذه الشعبية التي يحظى بها بوتفليقة إذن؟ لم يسبق قبل اليوم أن ادّعى أي حزب سياسي، و لا أي تنظيم بالجزائر بأنه يتمتع بشعبية أكثر من هذه التي يحظى بها الرئيس بوتفليقة؛ فالسنوات السبع التي هي عمر رئاسته حتى الساعة، عرفت سلسلة طويلة من النجاحات السياسية و الاقتصادية في سجل الرجل. فهو مثلاً كان وراء إطلاق مبادرتين لأجل استتباب الأمن: الوئام المدني -التي و إن سلمنا أنه قد شُرع فيها قبيل مجيئه في أبريل 1999 إلا أن الحقيقة أنه كان من تكفل بتطويرها ثم طرحها للاستفتاء في سبتمبر 1999- ثم مبادرة ميثاق السلم و المصالحة الوطنية في الخريف الأخير، و هذا معناه أن الجزائريين يقدّرون للرجل دوره المحوري في عودة بعض من أجواء السكينة و الأمن التي غابت طيلة عقد التسعينيات الأخير. أما على المستوى الاقتصادي فالنتائج في عمومها تشفع لصاحبها كثيراً؛ فلقد أُعلن مثلاً أن معدل البطالة انخفض بنسبة النصف (من 30% في 1999 إلى 15.2% في 2005)، زيادة على أن مداخيل كل بيت جزائري تطورت بما نسبته 25 % إلى جانب مشاريع استثمارية بقيمة (60) مليار دولار مبرمجة بين 2005 و 2009 مع نمو سنوي بنسبة 6% في المتوسط و استقرار ملحوظ في سعر صرف العملة الوطنية(الدينار) التي توقف تدهورها منذ العام 2001. لقد كان للصعود الكبير في أسعار المحروقات الدور الهام في كل هذا بكل تأكيد، و لكن الجزائر كانت قد عرفت في 1974 ثم في 1981 نفس هذه الارتفاعات من غير أن تتحقق بالضرورة نفس النتائج الحالية في ميادين الاستثمار و التنمية. لا يمكن تغيير بوتفليقة؟ و لكن.. هل يمكننا القول: إن ما حدث هو خبر نستطيع أن ندرجه ضمن خانة "الأخبار السعيدة" بالنسبة للجزائر؟ من الثابت أن الرئيس بوتفليقة لم يكن يوماً ذلك الشخص الذي يهتم كثيراً ببناء أمجاده الشخصية حتى و إن أجمعت تقارير أخرى كثيرة على عكس هذا، فهل في مقدورنا الجزم بأن الرجل لا يملك الرغبة في البقاء على رأس الدولة الجزائرية للسنوات المتبقية من عمره؟ إن فكرة مراجعة الدستور و التي لا شك أن هدفها سوف يكون منح الرئيس فرصة الحصول على فترة ولاية ثالثة -الدستور الحالي يحددها باثنتين- و هي فكرة رسمية معلنة، و ليست مجرد شائعات زيادة على أنها كانت مطروحة قبل ظهور مشكلة القرحة المعدية لدى الرئيس، ففي الوقت الذي أعلنت المصادر الإعلامية في فرنسا وفاة بوتفليقة "سريرياً"، بدأ حزب جبهة التحرير الوطني -أكبر حزب في البلاد و الذي يتولى بوتفليقة رئاسته الشرفية- سلسلة جلسات تنظمها اللجنة القانونية فيه حول موضوع "مراجعة بعض فقرات الدستور". الموضوع الأخير هذا لا يشغل في الوقت الحالي غير حزب جبهة التحرير؛ لأن حلفاءها فيما يسمى "التحالف الرئاسي" - حزب التجمع الوطني و حركة مجتمع السلم التي يرأسها أبو جرة سلطاني- غير معنيين بالقضية، علاوة على أن بوتفليقة نفسه لم يتطرق يوماً لهذه القضية زيادة على أنه كان دائماً يصر على ضرورة أن يتم الاستعداد لأن تتولى أجيال الاستقلال مشعل قيادة السفينة على حد قوله. لقد طرح مرض الرئيس الفجائي على الجزائريين تساؤلاً شائكاً لا أحد يرغب في الإجابة عنه مفاده: ماذا لو غاب بوتفليقة؟ إنه و على الرغم من أن كل مؤسسات الجمهورية بقيت تعمل بشكل اعتيادي طيلة الفترة التي امتدت بين 26/11 إلى 31/12 إلا أن هذا لا يمنعنا من التساؤل: لو أن هذه الغيبة تكررت أو صارت نهائية مثلما هو مصير كل إنسان ؟ إن على بوتفليقة أن يدرك الحاجة الملحة اليوم للقيام ببعض " التطوير " للمؤسسات العليا في الدولة ، لكي تصير مستقبلاً في مأمن من أي هزة جديدة قد تذهب بكل ما تحقق لمجرد وفاة شخص أو ميلاد آخر، وحتى يتحقق شعار الرئيس الأسبق هواري بومدين - الذي كان بوتفليقة أبرز مقربيه - "دولة لا تزول بزوال الرجال و الحكومات". المصدر: الاسلام اليوم