يبدو وكأن الأزمة السياسية الراهنة التي يعيشها العراق الآن هي وليدة انسحاب آخر جندي أميركي من البلاد؛ فقبل الاستعدادت النهائية لهذا الانسحاب هدَّدت القائمة العراقية - التي تمثل السُّنة بوجهٍ عام - بالخروج من الائتلاف الحكومي المتعثر أصلًا، وقبل هذا الإعلان كان السجال حول تحركات بعض مجالس المحافظات ذات الغالبية السنية لاقتناص شكلٍ من أشكال الاستقلال الإداري عن الحكومة المركزيَّة؛ وذلك بتغيير صفة المحافظة إلى إقليم، وفقًا لما يتيحه الدستور. وفي موازاة ذلك كانت تحركات الحكومة المركزية – أغلب وزرائها من الشيعة - بقيادة رئيس الوزراء «نوري المالكي» التي جاءت في شكل حملةٍ ضد القيادات السياسية السنية البارزة؛ حيث وجهت اتهامات ل«طارق الهاشمي» أبرز سياسي سني في هيكل السلطة العراقية بقيادة فرقٍ للقتل، وكذلك إقالة نائب رئيس الوزراء «صالح المطلق»، وهو كذلك من أبرز الوجوه السياسية السنية. الواضح أن خروج الجنود الأميركيين من الأراض العراقية حددَّ توقيت اندلاع النزاع بين القوى السياسية الشيعية ونظيرتها السنية، ففراغات القوة التي ولَّدها الانسحاب الأمريكي؛ أفرزت وضعًا أمنيًّا وسياسيًّا جديدًا؛ حاولت كلٌّ من حكومة بغداد التي يهيمن عليها الشيعة و«القائمة العراقية» الواجهة السياسية الأساسية للسنة، الاستفادة منها. سياسيًّا كان الوجود الأمريكي العسكري الكبير، والذي فاق في ذروته المائة وخمسين ألف جندي، بمثابة حائل بين الأطراف السياسية المختلفة، بحيث منع - إلى حدٍّ ما - تغول نفوذ القوى السياسية الشيعية بحكومتهم المركزية، ووفرَّ مايشبه منطقة عازلة للسُّنة المنخرطين في العملية السياسية، والأكراد. لكن مع انتهاء هذا الوجود الأمريكي يحاول المالكي توطيد هيمنته السياسية. وفي ظل فقدان الدعم الأمني الأميركي المباشر؛ من المستبعد ألا تكون حكومة «المالكي» قد حازت دعمًا إيرانيًّا في تحركاتها هذه، بل من المرجح أن يكون الإيرانيون قد دفعوا في اتجاهها؛ خاصة أن مصلحتهم تقتضي التمكين لحلفائهم للإسراع بتوطيد النفوذ الإيراني؛ ولعل المؤشر الأبرز في هذا الصدد هو إحجام المسؤولين عن التعليق على التطورات العراقية الراهنة، بل في خضم الأزمة السياسية المتفاقمة كان رئيس أركان القوات المسلحة الايرانية يؤكد استعداد طهران «لتعزيز علاقاتها العسكرية والأمنية» مع العراق، بعد أن رحَّبَ بانسحاب القوات الأميركية من البلاد. في كل الأحوال لا يمكن التقليل من شأن التدافع الواقع الآن بالفعل بين السعودية وإيران حول استثمار المساحات التي خلَّفتها القوات الأميركية وراءها، والانعكاسات المهمة لهذا التدافع على مسارات العملية السياسية العراقية وأزماتها. على الرغم من هذا، فإن انسحاب الأميركيين من العراق ليس هو السبب الحقيقي لأزمة البلاد السياسية الآن، بل الغزو الأميركي عام 2003 ومن بعده الوجود العسكري، الذي أفرز معادلة سياسية مأزومة في جوهرها، ولا يديمها سوى التعهد الأميركي لها. دخول القوات الأميركية إلى العراق إذًا هو السبب الرئيسي في المشكلات التي خلَّفها انسحابها منه بعد حوالي التسع سنوات.