مع نهاية هذا العام تتغير الخريطة السياسية والأمنية للعالم العربي والشرق الأوسط التي تشكلت منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. ليس فقط لأنه بحلول هذ الموعد سيتم انسحاب القوات الأمريكية من العراق، ولن يتبقى منها إلا أعداد قليلة لمهام حماية الدبلوماسيين بالإضافة إلي مهام استشارية، ولكن لما سيمثله هذا الانسحاب من فرصة لإيران لتوطيد نفوذها في البلاد، وتعزيز وجودها السياسي والأمني في المنطقة. أحدث الغزو الأمريكي قبل ثمانية أعوام للعراق، ومن ثم الإطاحة بنظام «صدام» فراغًا سياسيًّا وأمنيًّا؛ كانت إيران هي الأقدر على ملئه. استفاد منه الإيرانيون بتوسيع دائرة نفوذهم أولًا عندما أدَّى الاحتلال الأمريكي إلى إسقاط عدوهم اللدود –نظام صدام، وثانيًا عندما تلى الاحتلال بناء عملية سياسية أتاحت لأطراف شيعية لها صلات قوية بإيران موقعًا متقدمًا في السياسة العراقية، وثالثًا بما سببه من نكوصٍ لمؤسسات الدولة العراقية وانكفاءها، وما ترتب عليه من زيادة ثقل الدور الإقليمي الإيراني. لذا حاولت الجمهورية الإسلامية استغلال هذه الفرصة التاريخية للدفع باتجاه تحول جوهري في علاقاتها بالعراق؛ حيث كثَّفَت من تعاملها مع الجماعات السياسيَّة الشيعية والكردية المشاركة في العملية السياسية الناشئة في البلاد؛ وذلك للدفع باتجاه فيدرالية عراقية تضاعف من النفوذ الإيراني في البلاد. كما قامت أيضًا بتسليح جماعات شيعية ومتمردين شيعة – وسُنَّة أحيانًا – وتدريبهم وتمويلهم كي ينشطوا باتجاه إرباك القوات المسلحة الأمريكية لردع الولاياتالمتحدة عن أي تدخل عسكري آخرفي المنطقة. لم يقتصر الحضور الإيراني على التعاطي السياسي والدعم العسكري لعدد من الفصائل العراقية فقط، بل كان لهذا الحضور شكلًا «ناعمًا» تمثّّل في توطيد علاقات اقتصادية وتجارية توخّت المكسب المالي والنفوذ، فقد ذكر بعض المسؤولين الإيرانيين أن حجم التجارة بين البلدين وصل إلى ستة مليارات دولار، وهي بذلك تأتي كثاني أكبر شريك تجاري للعراق بعد تركيا. تمثَّلت الأهداف الأساسية لإيران من سياستها وتحركاتها في العراق إلى إضعافه، وجعله رهن نفوذها السياسي والاقتصادي والديني، وتجهيزه ليكون بمثابة جبهة أمامية في معركة صعودها الإقليمي مع القوى الإقليمية والدولية. ولكن ظل للنفوذ الإيراني حدودًا في العراق باستمرار الوجود العسكري الأمريكي فيه. وليس أدلّ على ذلك من فشل إيران في إثناء الحكومة العراقية عن توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولاياتالمتحدة في عام 2008. في الأساس مثَّلَ الوجود العسكري الأمريكي في ذاته- الذي فاق في ذروته 170000 جندي - عائقًا أساسيًّا أمام التحركات الأمنية لإيران ومحاولات دعمها للمجموعات الشيعية المرتبطة بها. لدعم بقائها واستمرارها اعتمدت الحكومة العراقية التي قادها الشيعة بدرجة أولى على الوجود الأمريكي، خاصة مع اشتداد عمليات المجموعات السنية المسلَّحة ضد سلطتها، والتي مثلَّت التهديد الأهم لها. وكلما ازداد اعتماد الحكومة العراقية على هذا الوجود العسكري، كلما خضعت للنفوذ الأمريكي على حساب التأثير الإيراني. وبالتالي مع انسحاب القوات الأمريكية تبرز إيران كراعي للحكومة العراقية الحالية، التي على الرغم من تصاعد سيطرتها على البلاد، إلا أنها مازالت تستبد بها هواجس تمرد مسلح يقوده سنة. ومن ثم لن تعدم دوافع اللجوء إلى دعمٍ إيراني. مثلما كان غزو القوات الأمريكية للعراق في مجمله فرصة لإيران ودورها الإقليمي، فإن انسحاب هذه القوات كذلك يمثل فرصة لها أيضًا. يَظْهَر نشاط الإيرانيين للاستفادة منها. فداء فوزي