أفهم أن ينشط الكاتب الروائي ( يوسف القعيد ) , للدفاع عن أحد أبناء جيله من الأدباء و الروائيين , و أفهم _ بالقدر ذاته _ أن ينتفض القعيد لتأبين الروائي الراحل ( جمال الغيطاني ) بمقالة أو ندوة أو حفل تأبيني , فقد كان الرجلان ابنين للجيل العمري و الإبداعي نفسه فلا تثريب أن يتعاطف الروائي مع سميه و نظيره , خصوصا إذا ما تقاربت الولاءات و المشارب . و لكن الذي لا أفهمه و لا تسوغه الذائقة و الذوق أن يخصص ( القعيد ) مقالا لتأبين ( الغيطاني ) _ كما يوهم ظاهر الامر _ فيبادر بنشره ب ( جريدة عمان ) تحت عنوان : ( اللقاء الاول ) , و إذا بالمقال لا علاقة له بالغيطاني , تقريبا , و هي ظاهرة أصبحت تلازم القعيد في الفترة الأخيرة , يحدثك في ندوة تحت عنوان معين ثم يذهب بك إلى التيه في موضوعات متفرقة لا رابط بينها , كما صنع في ندوة ( نجيب محفوظ ) الأخيرة , حيث أثار ذهول الأدباء و الصحفيين الذين حضروا حين تجول بهم في الأودية و القارات و الصحراوات , دون أن يتطرق إلى الموضوع الأصلي , فخرج الحضور من القاعة بين مشفق و مستغرب و مستنكر ! و تأكد للجميع بعشرات الشواهد أن صاحب ( الحرب في بر مصر ) و أحد القابضين بالأظافر على رقبة لجان المجلس الأعلى للثقافة أعمارا طويلة قد انفصل تماما عن اللحظة , زمانا و مكانا ووجدانا ! و قد أستطيع أن أتفهم هذا كله , بداعي التقدم في السن و خيانة الذاكرة أو بداعي التكلس الفكري و الجمود أو بأية ذرائع أخرى , و لكن ما لا أستطيع أن أتفهمه , و ما لا تقبله _ كما أسلفت _ الذائقة و الذوق , أن يتحدث القعيد عن ( جمال الغيطاني ) , فيخصص ما يقرب من ثلث المقالة للتشهير الفج الموتور بالمفكر الراحل الكبير د / ( مصطفى محمود ) , متهما إياه بضفيرة من التهم المرعبة أقلها ( التلصص و تتبع الخصوصيات ) و ( الدروشة ) و ( ركوب الموجة ) ! ما دخل ( مصطفى محمود ) بالغيطاني ؟ ! و ما مناسبة الحديث الآن عن ( دروشة ) مصطفى محمود _ بتعبيره ؟! و لماذا الثأر الأسود من مصطفى محمود الآن ؟ ! و لماذا محاولة اغتيال صاحب ( العلم و الإيمان ) و ( حوار مع صديقي الملحد ) في هذه اللحظة الحضارية و السياسية تحديدا ؟! و هل من الفروسية و اللياقة المفترضة هذا الهجوم الوالغ في سمعة الرجل _ بلا تحفظ _ بينما الرجل المستهدف بالهجوم ليس معنا و لا بين أظهرنا ليرد و يكيل الصاع صاعين ؟! و هل اغتيال الراحلين معنويا و أدبيا بهذه الطريقة الفجة الموتورة عمل لائق تقبله الضمائر و تسوغه الأذواق , ولو من الوجهة البروتوكولية ؟! و لماذا لم يكتب القعيد عشر معشار هذا الكلام قبل عشرين عاما مثلا و مصطفى محمود على قيد الحياة ؟! وهل عاود اليسار المتطرف المسيطر على مرافق وزارة الثقافة _ بما يشبه الاستعمار ! _ الهجوم على رموز الفكرة الإسلامية المعتدلة مجددا في سياق منحى أشمل بتصفية التوجه إجمالا , بمعتدليه قبل متطرفيه , و برموزه الوسطية قبل غلاته و متشدديه في سياق سياسي و فكري يمثل الآن فرصة نادرة عزيزة على التكرار ؟ ! لقد حاول اليسار و التيار القومي , قبل عقدين , الإجهاز على ( مصطفى محمود) , المبدع و المنجز و الفكرة , و كان وكيل الهجوم _ آنذاك _ الراحل ( أحمد بهاء الدين ) , ولكن مصطفى محمود ثبت كالجبل الراسي في عين العاصفة و كال الصاع صاعين بعمق و أدب ووثق اليسار المتطرف و ثلة القومجية أن عظام الرجل أصلب من أن يتم ابتلاعها بهذه السهولة المتصورة ! و الآن يعاود القعيد وصل ما انقطع , بضحالة عجيبة و خفة تثير الاستغراب . لقد عقبت ( البوابة نيوز ) على مقالة القعيد تحت عنوان : ( رحيل الغيطاني و نفسنة القعيد ! ) مستغربة مقالة القعيد , بناء و أسلوبا و أفكارا ! و تساءلت البوابة نيوز : كيف يتحدث القعيد عن تأبين الغيطاني فيخصص ثلثي المقالة للكلام عن نجيب محفوظ و التمسح بتاريخه , بغير مناسبة , فيما يخصص الثلث الباقي لاغتيال مصطفى محمود معنويا ؟! و أين الغيطاني صاحب المناسبة و التأبين من هذا كله ؟! وقالت البوابة نيوز _ عن حق _ تعقيبا على مقالة القعيد : ( ..لم يقدم في المقال سوى نفسه و ذكرياته مع نجيب محفوظ ..و قصة غامضة عن مصطفى محمود لا علاقة لها ببقية المقال ! ...) , و تساءلت البوابة نيوز : هل كنا بإزاء مقال تأبيني عن الغيطاني أم بإزاء ( قعدة ثرثرة ..لإزجاء الوقت ؟! ) و هنا أفتح قوسا عريضا لأختلف مع البوابة نيوز في مسألة ( إزجاء الوقت ) , فلم يكن القعيد متسليا بإزجاء الوقت بل كان يطلق المقذوف بتعمد و قصد و في مرمى القصف الدقيق المنضبط الذي أراده منذ البداية ! تحدث القعيد _ في مقدمة المقال _ عن نشأته في ( الضهرية ) من أعمال ( إيتاي البارود ) و تطرق بإشارة وجيزة إلى نشأة الغيطاني و سكنه في (درب الطبلاوي ) , ثم استدار ليتحدث عن تحفظ نجيب محفوظ الشديد في إطلاع الآخرين على خصوصياته المنزلية , ثم قفز القعيد فجأة بذكر واقعة , مختلقة حتى النخاع , و دون أن يورد على صحتها دليلا واحدا , و مفادها أن مصطفى محمود أرسل مرسالا ليحاول _ بطريق الخداع _ أن يتلصص إلى معرفة محتويات بيت نجيب محفوظ , ثم ليفضح ما حرص محفوظ على ستره و حجبه عن العيون من أسرار بيته ! بالله عليكم هل صاحب الصومعة الفكرية مصطفى محمود , يمكن في أية لحظة ( حتى و إن كانت لحظة الجنون بعينه ! ) أن يؤجر عينا لتتلصص على بيت نجيب محفوظ , حتى يتمكن من فضحه _ بأسرار بيته _ على الملأ ؟! من الذي يصنع ذلك ؟ المتنسك في محراب التصوف مصطفى محمود ؟! فماذا تصنع إذن عصابات شيكاغو و كيف يتصرف قطاع الطرق ؟! و لماذا يصر القعيد على استغباء القاريء و استحماره بهذه الأساطير الكالحة المنسوجة و المتوائمة مع أساطير مشابهة كثيرة يجري تمريرها الآن ؟! و لم يدع القعيد مجالا لأية استنتاجات بشأن الهدف الحقيقي من مقاله حين قال عن قصة التلصص و التجسس المختلقة و المنسوبة لمصطفى محمود : ( ....جرت عندما كان مصطفى محمود واحدا منا , جزءا من جماعة المثقفين , و قبل أن تبدأ حالة الدروشة التي أصابته بمجرد استشهاد ( جمال عبد الناصر ) و رحيله و استيلاء ( أنور السادات ) على السلطة ...ووصف الدولة المصرية بدولة العلم و الإيمان , حتى أصبح مصطفى محمود جزءا من هذا الواقع الجديد ...) ! منذ اللحظة التي قرر فيها _ إذن _ مصطفى محمود أن يمضي في رحلته الاكتشافية الإيمانية لذاته و للعالم , أصبح _ فيما يرى القعيد _ منفصلا ( عنا ) أو عن ( جماعة المثقفين ) _ بتعبيره _ و كأن الحالة الثقافية لا بد أن تتطابق و تتماهى تماما مع ( الحالة اليسارية و القومية ) ! و قد ذكرني هذا التعبير ( ..جماعتنا ..) الذي كرره القعيد مرارا بحوار دار بيني و بينه على هامش ندوة بالمجلس الأعلى للثقافة , حين تزاملنا قبل سنوات في ( لجنة القصة ) فقال لي معلقا على بعض الحصص الإعلامية الدينية التي أقدمها على الفضائيات : ( ..أنت من ( جماعتنا ) أم ( جماعتهم ) ....؟! ) إن شق الواقع الثقافي و الوطني إلى جماعتين متعاديتين متصارعتين , بهذا الاستقطاب الدامي المحزن الذي تشهده مصر و تدفع ضريبته القاتلة الآن لم يكن مجرد مصادفة , و إنما كان تراكما لممارسات و سياسات رسمتها نخبة بعينها لسنوات و عقود , و تطايرت ثمارها المسمومة المرة الآن ! و الذي نفهمه أن الحاضنة الوطنية تتسع لليبرالي الوطني النقي , و اليساري المستقل المناضل و لرموز الفكرة الإسلامية الوسطية الجامعة , منذ محمد عبده حتى عبد الرحمن بدوي و مصطفى عبد الرازق و محمد أبو زهرة و رفقائهم , و هو ما لم تفهمه جيوش اليسارو فيالقه المسيطرة على وزارة الثقافة حتى الآن ! و مجددا أقول لهذه الفيالق المتأهبة بشحذ السكاكين , ستفشلون _ مرة أخرى _ في اغتيال مصطفى محمود ( 1921- 2009 ) , حتى بعد موته , فالذي استوطن القلوب بمسيرة فكرية تركت أكثر من ثمانين كتابا بين الإسلاميات و الرواية و المسرح و المقال و السيرة الذاتية و البحث التأملي العلمي , و ترك في الوقت نفسه مؤسسة كبيرة في قلب القاهرة للاستشفاء و بث الوعي , فضلا عن عشرات الحلقات من برنامج ( العلم و الإيمان ) من تراث التليفزيون النفيس و هي الحلقات التي علمتنا أن نتصالح مع حضارتنا و مع أنفسنا و العالم , أقول إن من ترك هذا كله ليس سهلا كسره أو استئصاله من الوعي و الوجدان المصري بهذه الخفة ! و لن أرد المغمز لصاحبه فأسأل القعيد عما بقي فعليا في الوجدان المصري من كتبه هو من نمط ( وجع البعاد ) و ( لبن العصفور ) و ( في الأسبوع سبعة أيام ) و ( طرح البحر ) ...و أخيرا رواية ( مجهول ) ( من روايات الهلال ) و هي الرواية التي حضر ندوة مناقشتها في مكتبة مصر العامة حديثا بضعة أفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة خرجوا محبطين , في استفتاء حقيقي على درجة الحضور و التواصل الجماهيري الحي , و هو استفتاء أساسه سؤال يسير : من كان الأكثر تأثيرا و الأجدى لمصر ؟! أعرف أن السؤال محرج و لا أريد منكم إجابة !