اللغز الأول : فور إعلان تكليف المهندس شريف إسماعيل وزير البترول في حكومة المهندس إبراهيم محلب المستقيلة بتشكيل الحكومة الجديدة وهو يتعرض لحملة هجوم ربما لم يتعرض لها شخص مكلف لهذا المنصب من قبل. اللغز الثاني : مصدر الهجوم على إسماعيل هم أقرب الناس للسيسي، أشدهم حماسا له ولحكمه، وأكثرهم دفاعا عنه وعن كل ما يتعلق بقراراته وسياساته وطريقة إدارته للدولة، وهم الذين يتولون توجيه القذائف تجاه كل صوت يعتبرونه خصما أو معارضا أو مختلفا معه، بدأ الهجوم مرتضى منصور الذي اعتبره لا يصلح واختيار غير موفق وأنه كان يستقبل محمد فودة وغمزه في تهم استغلال نفوذ وفساد، ووصل الهجوم محطة توفيق عكاشة الذي صعد به مرحلة أعلى حيث زعم أنه - أي شريف إسماعيل - صلى ركعتين شكر بعد فوز مرسي بالرئاسة، وبأن لديه ميولا أو تعاطفا مع الإخوان، وأنه راعي الإخوان في وزارة البترول!.
اللغز الثالث: وهو مرتبط بالهجوم عليه أيضا لكن بطريقة أهدأ حيث يقولون إنه ليس سياسيا وأنه صامت ولا يتعامل مع الإعلام، وبالتالي كيف يكون رئيسا للوزراء وهو غير مسيس ومنغلق.
اللغز الرابع : المتحدثون ليلة إقالة محلب بدوا كما لو كانوا يكتشفون فجأة أنه كان رجل عمل وحركة وزادوا أن هناك تعاطفا شعبيا واسعا معه، كأنهم يريدون القول إن إقالته أو الطلب منه أن يستقيل كان قرارا خاطئا.
.. إذن كيف نفهم بعض تلك الألغاز التي اكتفينا بها هنا، وكيف نحلها؟.
ليس معتادا طوال العامين الماضيين، أي منذ بروز السيسي على الساحة بعد 3 يوليو، ثم توليه الرئاسة أن يتعرض قرار اتخذه بمثل هذا الهجوم الصريح، والطلب منه أن يراجع نفسه، ومن أقرب أنصاره الذين يملأون الفضاء في أحاديث وشروح وتحليلات حول دقة وسلامة خياراته، هل هى حرية رأي؟، هل هى حبوب شجاعة تناولوها؟،هل هذا مسار ونهج جديد لهم بعد أن انتهت قصة الإخوان ولم يعد فيها جديد يمكن أن يُقال؟، هل بعد عامين من التجميل يكتشفون اليوم أن الواقع أشد من أن يُحتمل تجميله أكثر من ذلك، وأن هناك ميراث ضخم من الأزمات يتحرك ببطء نحو الحل وأن هناك اختيارات غير موفقة، وأن البلد ليست في الحالة المأمولة التي كان يُمّنى الناس بها، وأن قناة السويس الجديدة لا تكفي وحدها للاتكاء عليها طويلا؟، هل هى صرخة للسيسي بأن ينتبه، فقد كان محلب اختياره، وكان وزراء حكومته برضاه؟، أم أن هؤلاء لهم مآرب أخرى في الهجوم؟، يفضلون محلب لأسباب خاصة بهم، وقلقون من شريف إسماعيل لأسباب خاصة بهم أيضا، إذ لا يُعقل أن يُهاجم وزير ناجح بشهادة كثيرين قريبين من السلطة لحظة تكليفه برئاسة الحكومة قبل أن يُوضع موضع الاختبار ولو لفترة قصيرة، ولا يُعقل أن يكون للرجل هوى إخواني بينما الدولة تخوض مواجهة ضدهم، ولا يُعقل أن تسكت تلك الأجهزة على تصعيد وزير إلى منصب رئيس وزراء وفي داخله هوى إخواني ولو من بعيد جدا، ولا يُعقل أصلا أن يبقى هذا الوزير في وزارة البترول لأكثر من عامين ولا يتم اكتشاف ذلك الهوى أو رعايته للإخوان في الوزارة، أم أن هناك أجنحة ما في السلطة - إذا كانت هناك أجنحة - لا ترغب في شخص رئيس الوزراء الجديد أو لا تستريح له ويُراد تشويهه وهزه نفسيا وشعبيا وإضعافه والتأثير عليه قبل أن يشكل حكومته ويمارس عمله ليكون ذلك بداية فشل سريع له؟.
ومسألة رئيس الوزراء غير المسيس ليست أمرا جديدا فكل رؤساء الحكومات في مصر من التكنوقراط، والنظام الرئاسي كرس ذلك، فالرئيس هو صانع السياسات الداخلية والخارجية والحكومة معاونة له وتنفيذية فقط، والرئيس في مصر عموما لا يريد رئيس حكومة مسيسا يزاحمه ويحتل جزءا من الصورة معه داخليا وخارجيا بل يُراد أن يبقى رئيس الحكومة "ملقف" للانتقادات والهجمات والغضب الشعبي من سوء الأوضاع ليظل الرئيس بعيدا عن هذه التأثيرات، وتلك السياسة مازالت مستمرة ، وإذا تم تفعيل الدستور الجديد فيما يتعلق بتشكيل الحكومة بعد انتخابات البرلمان فقد يظهر رئيس الوزراء السياسي كما كان أيام الملكية، وإن كنت غير مطمئن لحدوث ذلك.
أما عن نشاط محلب فلا يكفي أن يواصل رئيس الحكومة الليل بالنهار في الشارع ليكون ذلك دليل نجاح، إذا كان رئيس الوزراء لن يجلس في مكتبه لمتابعة العمل التنفيذي في مختلف الوزارات، فماذا سيفعل الوزراء، وماذا سيكون عملهم؟، فهم المُطالبون بالتحرك والنزول للشارع وميادين العمل، ثم ماذا كان عائد بقاء محلب في الشارع؟، لا شيء، جولات لتهدئة الناس، وربما يحيل موظفا مهملا للتحقيق، ويسمح بلقاء مواطن أو مواطنة يستغيث به فيقوم بالطبطبة عليه ويقول له كلمتين طيبتين ثم تعود الأوضاع في المنطقة التي زارها إلى ما كانت عليه بعد مغادرته.
الحقيقة أن الأوضاع المعقدة في مصر أكبر من أي مسؤول مهما كان، البلد يحتاج إلى إعادة بناء طوبة طوبة من جديد، لكن نجاح هذا البناء مرتبط بالعدالة والمساواة والقانون الذي يُطبق بعدالة على الجميع وبالحفاظ على كرامة المواطن حتى يتحول هذا المواطن الكريم إلى البنّاء الأول لبلده.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.