من أكثر ما أسفرت عنه الحر ب العالمية الثانية (1939-1945م) إضرارًا بالبشر بعد القتل والتدمير غير المسبوق.. كان ظهور قوتين من أخطر القوى تأثيرًا فى حياة الناس والمجتمعات فيما بعد.. القوة الأولى هى قوة أجهزة الإعلام وكان الدوس هيكسلى فى رواية (عالم جديد جرىء) وجورج أورويل فى رواية ( 1984) قد تنبأ فى رواياتهما بخطورة القوة الإعلامية التى ستحكم العالم فى المستقبل.. والقوة الثانية هى قوة أجهزة المخابرات التى تلحق عادة بالحاكم مباشرة وتمكنه من فعل كثير من الأفاعيل التى تثبت حكمه.. استعانة المخابرات بالإعلام جزء هام من مهامها فى فرض الأفكار والآراء على العقول والخيال.. ولا أبالغ إذا قلت إن العالم من منتصف القرن الماضى تقريبًا تحكمه هاتين القوتين وهما إذ بدأتا فى الاضطلاع بهذه المهمة الكبرى فقد أخذ دوراهما يتطور ويتعملق مع تقدم تكنولوجيا الاتصالات والدعاية إلى حدود غير مسبوقة .. وليس غريبًا أن نعلم أن الرئيس الأسبق ح.ح.عبد الناصر كان قد سارع إلى تأسيس المخابرات(1954م) فور استقرار حكمه. وأسندها إلى أكثر الشخصيات قربا منه وثقة فيه زكريا محيى الدين (بيريا الرهيب) كما كانوا يسمونه تشبيها ببيريا وزير داخلية ستالين فى روسيا.. سيلفت نظرك أن ح. ح. عبد الناصر كان يشرف بنفسه على أهم الأجهزة الأمنية ثم يسلمها بعد ذلك لزكريا محيى الدين.. فعل ذلك فى وزارة الداخلية(كان أول وزير داخلية بعد الثورة) ثم سلمها لزكريا محيى الدين..الذى خرج منها على جهاز المخابرات ليشرف على تأسيسه هو وعلى صبرى مع مائة ضابط ألمانى أرسلهم مايلز كوبلاند (مسئول الشرق الأوسط فى الخارجية الأمريكية وقتها) وكان القوات الأمريكية قد اعتقلتهم ضمن من اعتقلت من العلماء والضباط الألمان بعد هزيمة هتلر وأحسنت استقبالهم وتسكينهم فى الأجهزة الأمريكية وأصبح بعضهم جزءًا من المخابرات الأمريكية.. وكان على رأس هؤلاء الضباط ضابط القوات الخاصة الألمانى الشهير(اوتوسكورزينى) على ما أورده السفير ناجى الغطريفى فى مذكراته. وقل مثل ذلك فى الإعلام أيضًا والذى انتهى بإعلان تأميم الصحافة الذى صدر قرار به عام 1960م .. نفس العام الذى انشأ فيه التليفزيون .. الحكيم البشرى يقول إن ثورة يوليو اعتمدت اعتمادا تاما على الأمن والإعلام فى التأسيس للجمهورية الوليدة . ولم لم تعتمد أبدا على السياسة والفكر والمؤسسات.. قال ذلك فى كتابه الشهير (الديمقراطية وثورة يوليو) .. ستمر الأيام والسنون ونجد واقعنا الوطنى نخب بلا جماهير وسلطة بلا فكر . على مثل ذلك سارت أغلب الدول العربية خاصة الدول الثورية _سوريا والعراق وليبيا _ التى اختصرت القصة مبكرًا: أمن وإعلام وما نراه الآن فى هذه البلدان ما هو إلا حصاد الحصاد فيما فعلته تلك الكائنات غير الآدمية فى شعوبها .. (هربرت شيللر) أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا له كتاب شهير حول هذه المعانى بعنوان (المتلاعبون بالعقول) وعنوان جانبى آخر(كيف يجذب محركو الدمي_جمع دمية_ الكبار فى السياسة والإعلام ووسائل الاتصال الجماهيرى خيوط الرأى العام؟). شيللر من الشخصيات الكبيرة فى دنيا الإعلام والرأى العام (1919-2000م) وله دراسات مهمة فى هذا الجانب ولا تزال كتاباته تقرأ قراءة مرجعية إلى الآن . الفكرة العامة للكتاب تدور حول حقيقة مؤكدة تقول: إنه أمام الضغط الإعلامى المتكرر لا يجد الجمهور فسحة للتأمل والتفكير والتحليل ويقدم إليه الوعى جاهزًا ولكنه وعى مبرمج ومعد مسبقًا باتجاه واحد مرسوم.. على أن يكون كل ذلك يتم بدهاء وتحت غطاء من الديمقراطية والحياد . فى المقدمة يقول شيللر (تنعم صناعة توجيه الجماهير بفترة نمو استثنائية بهدف تعليب وبرمجة العقول وكما يفعل حكام العالم الثالث عندما يودون تسيير قرار أو قانون ما فهم يلجئون إلى وسائل الإعلام عن طريق السيطرة التكتيكية من صور ومعلومات بقصد التحكم فى عقول الشعوب من خلال الاستفادة من الظروف التاريخية وبهذا الأسلوب يصبح أبسط الناس وأشدهم حاجة أكثرهم تحمسًا لقوانين الملكية الفردية والحيازة وأشدهم عداوة للحرية فى ابسط مفاهيمها.. بل هو يصبح أكثر الناس عداوة للمنتمين لها).. سنجد فى الكتاب رؤية تحليلية ناقدة لآليات السيطرة والتأثير على عمليات جمع ونشر المعلومات وطبيعة القوى المهيمنة على وسائل الإعلام وهو يوضح من خلال التحليل النقدى المفصل لآليات التوجيه الكامنة فى أدوات إعلامية مثل أجهزة استطلاع الرأى والإعلان التليفزيونى وأفلام والت ديزني... إلخ ( العلامة د.عبد الوهاب المسيرى كان له دراسة تحليلية مهمة عن توم وجيرى وما يقدمانه من أفكار تحكم السلوك البشرى). ويرى شيللر، أن تضليل وبرمجة عقول البشر ما هو سوى تطويع الجماهير للأهداف والسياسات السائدة حتى يتم ضمان تأييد النظام.. بغض النظر إذا ما كان هذا النظام يعمل للمصلحة العامة أو ضد الصالح العام للشعب!! ويضيف بأنهم لا يلجئون إلى التضليل الإعلامى إلا عندما يبدأ الجمهور فى الاستيقاظ والظهور على الساحة لكى يصحح مساره أما عندما يكون الجمهور مضطهداً غارقا فى همومه وفقرة المدقع ويعايش بؤس الواقع فهم يتركونه فى غيبوبته دون تدخل..رأينا ذلك قبل يناير 2011 وبعد 3/7 .. يحاول شيللر، أيضًا فى كتابه كشف الأيديولوجيات المستترة محاولا فضح المصالح الحقيقية المخفية وراء الرسائل الإعلانية التى تبدو للجميع خالية من القيم والإيدولوجيات والرسالة الإخبارية التى تبدو محايدة وحتى المعلومة التى تبدو للمتلقى مجرد معلومة مجردة. ويعتقد المؤلف أن الخطر الداهم الذى يتهدد الكيانات الاجتماعية للبشرية يكمن فى الدوافع التجارية الخالصة والتى لا تهدف إلا للربح وبهذا أضيفت إلى الإعلان قيم جعلت من السلعة الاستهلاكية محورًا للحياة بدلاً من أن تكون جزءًا منها وباتت الكماليات بفضل التضليل الإعلانى أساسيات يجدر بذل كل شيء للحصول عليها هذه الصورة الوهمية التى روجتها أجهزة الإعلام جعلت من الحياة سلسلة من الاستهلاك المادي( نتذكر كلام الدكتور المسيرى عن الإنسان المتشىء المستهلك) وهددت الاستقرار الأسرى والاجتماعى كثيرًا لدى من لا يملكون وجعلتهم فى النهاية أداة طيعة بيد من يملكون. الهدف الأساسى وراء كل ذلك الإبقاء على مقاليد (الثروة والسلطة والقوة) الاحتفاظ بها وتكريس وضع من لا يملكون..!! ويرى شيللر، أن أجهزة الإعلام المختلفة نجحت فى جعل الجماهير منقادة ومقيدة ضمن أغلال أبواق الإعلام رغم أنهم وفى أبسط الأمور فى حياتهم اليومية يتصرفون (ضد مصالحهم دون ما شعور بهذا العبء أو أدراك بأنهم مسيرون وليسوا مخيرين ). يقول المؤلف، إنه عند وقوع أزمة حقيقية أو مفتعلة ينشأ جو هستيرى محموم بعيد تمامًا عن العقل والمنطق ويؤدى إلى الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة.. ونتيجة ذلك تضعف قدرة الجمهور على التمييز بين درجات الأهمية. وهكذا يبقى الجمهور فى دوامة من الأحداث والتدفق والإغراق ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل.. وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار وتخالف المجموع العام ويبدون مغفلين ومجانين ولا يفهمون وقد يضطرون إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم و تتولى آلات الإعلام الضخمة نبذهم وحشرهم فى الهامش باعتبارهم متعصبين أو متطرفين وإرهابيين وربما مجانين .. يوم الخميس الماضى 3/9 نشرت (المصرى اليوم) كاريكاتيرًا فى الصفحة الأخيرة لأحد الملتحين وهو يداعب طفلة منتظرًا صدور تشريع يبيح له الزواج منها.. والحالة لا تعبر عن موضوع اجتماعى يشغل الرأى العام هو فقط يشير الى درجة الشذوذ التى يحملها رأس الإنسان الملتحى .. والذى هو رمز إعلامى ( للمرجعية الإسلامية).. بعدها حين تسمع أنت جملة (مرجعية إسلامية) يتبادر إلى ذهنك فورًا صورة الملتحى الذى يريد الزواج من طفلة أقل من خمس سنوات أنت إذن أمام موضوع يتراوح بين الوهم والكابوس المهم أن هذه الموضوعات يجرى الترويج لها واسعا تحت ستار مقاومة دخول حزب دينى للبرلمان وكان الأستاذ هيكل قد نصح بعض الأجهزة بتأسيس حزب دينى متشدد يزايد على (التيار السياسى الإسلامى) ويطرح نماذج حياتية مشوهة ومنفرة باعتبارها (النموذج الإسلامى الواعد) وأغلبها يدور حول الجنس باعتباره موضع جماهيرى جذاب كمضاجعة الموتى والأطفال. بعدها سمعنا شكوى من الأستاذ هيكل بخوفه على هذا الجهاز لانشغاله بالداخل أكثر من انشغاله بالخارج . الكتاب على درجة كبيرة من الأهمية وهو يقدم لنا نموذجًا تفسيريًا واضحًا لكثير مما نراه ونعيشه هذه الأيام.. نشاهدها ونحن صامتون وأكثرنا متألمون .. وعليك أن تقتنع أنك واحة الاستقرار وسط بحر هائج ولتستمر جمهورية الأمن والإعلام فى تداول نفسها بنفسها لنفسها .