«يقوم الإعلام بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ومعالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها.. تلك المعلومات والصور التى تحدد مواقفنا ومعتقداتنا بل وتحدد سلوكنا فى النهاية.. وحتى عندما لا تتطابق تلك المعلومات مع الحقائق، فإن مسئولى الإعلام يتحولون إلى سائسى عقول، حتى تتجه المعلومات عن عمد إلى استحداث معنى زائف يعادل الحقائق وإنتاج وعى لا يستطيع أن يستوعب أو أن يرفض سواء على المستوى الفردى أو المجتمعى». بتلك العبارة قدم هيربرت شيللر كتابه «صناعة العقول» الصادر عام 1974 مع تطور ثورة الاتصال والمعلومات، وهى عبارة لا تزال صالحة لتوصيف الحال فى عالمنا العربى خاصة فى مرحلة الثورات فمهمة مسئولى أجهزة الإعلام هى كيفية السيطرة على عقول البشر وتوجيه مواقفها وتزييف الوعى فى بعض وربما فى كثير من الأحوال. يستدعى التعامل الإعلامى مع الثورات العربية وانتفاضات الشعوب من أجل نيل حريتها واسترداد كرامتها من أنظمة القهر والاستبداد التى حكمتها لعقود، استلهام الدروس، فقد تعرضت هذه الثورات وتلك الانتفاضات أثناء اندلاعها وبعد نجاح بعضها جزئياً لتلك العملية فى ضوء اختلاف أهداف أطراف اللعبة السياسية، لاسيما التى تسعى إلى خفض سقف التوقعات من الثورات وسرقتها بحيث لا تؤدى سوى إلى استبدال استبداد باستبداد، ويستوى فى ذلك القافزون على الثورات وأصحاب التمويل الأجنبى ومن وراءهم. فتضليل عقول البشر أداة لقهرهم وإحدى الأدوات التى تسعى أطراف اللعبة من خلالها إلى «تطويع الجماهير» لأهدافها الخاصة بما يضمن التأييد الشعبى، فحين يؤدى التضليل دوره فإنه تنتفى الحاجة إلى اتخاذ سياسات اجتماعية بديلة، فالتضليل أول أداة تتبناها النخب واللاعبون كل حسب أهدافه السياسية من أجل إحكام السيطرة، وتلجأ إليه السلطة عندما يبدأ الشعب فى الظهور فى مسار العملية التاريخية، أما قبل ذلك فلم تكن هناك ضرورة لتضليل «المضطهدين» أساساً. وليس من المستغرب أن يبلغ الإعلام أعلى درجات التطور فى بعض المجتمعات، بحيث يصبح المجتمع والدولة يستمدان مكانتهما وهيمنتهما من وسيلة إعلامية وخطاب إعلامى، وتصبح أنشطة الإعلام خاضعة «لمبادئ السوق»، فامتلاك وسائل الإعلام والسيطرة عليها تصبح بذلك سيطرة على الجماهير شأنه شأن أشكال الملكية الأخرى متاحان لمن يملك رأس المال، ونتيجة ذلك كما من مظاهره أن شبكات التليفزيون والصحف مملوكة لمؤسسات اقتصادية وتكتلات إعلامية ورجال الأعمال والاقتصاد، فمن يملك جهازا إعلاميا أصبح دولة يملك أداة من أدوات السيطرة ويستطيع الاضطلاع بدور حاسم فى أعمال التضليل، ومن ثم فى المجتمع.. والدولة. هنا لفت شيللر النظر إلى أن هؤلاء (المالكين والموجهين) حريصون على تحريك العملية من وراء الستار وإخفاء وجودهم بل وإنكار (علناً) تأثيرهم، فوسائل الإعلام التجارية متحيزة (لا مجال للقبول هنا بادعاء الحياء والنزاهة والمهنية) لأنها ببساطة تعتمد على إيرادات الإعلانات من أصحاب المصالح وهى تبدأ تسيير العملية بحمل زائد من المعلومات وبالإلحاح حتى تصل المعلومات المطلوبة إلى أكبر قطاع من الناس، مع ملاحظة اختيار المعلومات المصفاة بعناية المطلوب ترويجها، وقد سهل تطور تكنولوجيا الاتصالات الإرسال الفورى والاستعادة الفورية، ومن ثم يصبح المستقبل أكثر خضوعا للتأثير المضلل من الحاضر (أو الماضى) الخاضع للتوجيه. ومن المثير على خلفية التطورات التكنولوجية فى وسائل الاتصال أن شيللر كان أعطى اهتماما منذ سنوات إلى ظهور ما سماه «التعاونيات الإعلامية» ودعا إلى عدم التهوين من أهميتها فى ضوء مستندا إلى هارولد لاسويل أن الفرد يتم حرمانه من الاختيار الذى يحق له أن يمارسه عندما يجرى التأثير عليه بصورة مضللة مقصورة ومستمرة، كما تحدث عن دور أفراد وجماعات تتحرك تحمل أجهزة كاسيت وكاميرات تشارك فى صناعة العقول. وهؤلاء بطبيعة الحال يمكن أن يسهموا فى خلق ضمانات لمواجهة التوجيه المضلل لعقول البشر، ويمكن أن يحدث العكس أيضا، ومن المثير أنه فى الولاياتالمتحدة كف قسم كبير من المواطنين عن تصديق ما يرونه أو يسمعونه أو يقرأونه فى وسائل الإعلام، بينما فى العالم العربى الآن لا يزال قسم كبير يصدق ما يراه. تلك الوضعية لوسائل الإعلام فى الغرب وعملية صناعة العقول لا تزالان تعملان لدينا فى العالم العربى، فمن اللافت للنظر أنه بعد نجاح بعض الثورات بالعالم العربى فى إزاحة رؤوس النظام، ظهرت وسائل إعلام مطبوعة ومرئية عديدة منها من يمول من الخارج ومنها من يمول من رموز النظام السابق، وكل منها بطبيعة الحال يحاول أن يشد المواطنين إلى وجهة نظر سياسية معينة، والغريب أن منها من يحاول أن يشد المواطنين إلى الماضى! والتفسير المنطقى، هو أن النظام لم يسقط بالكامل وأن جماعات المصالح التى ارتبطت به أو ترتبط بمصالح قوى أجنبية لا تزال تعمل بكفاءة،وفى العمق فإن وأن العقول التى اندلعت الثورات لتحريرها تتعرض للاحتلال من جديد. [email protected]