المؤلف: د.عبدالعزيز غنيم عبدالقادر الناشر: سلسلة البحوث الإسلامية فى هذه الأيام تهفو قلوب الناس إلى مكة ويذهب إليها القادرون لقضاء الركن الخامس من الإسلام وهو الحج، "ليشهدوا منافع ويذكروا الله"، فى هذا المؤتمر العالمى، يأتى الناس من كل فج ليصطلحوا مع الله، وإذا كان أدم هو أول من عبد الله تعالى على ظهر الأرض، فإن الكعبة هى أول بيت وضع للناس، ليذكروا فيه ربهم، ويقدسوا إلههم، الذى خلق كل شىء، وعلم كل شىء، والذى أعد الجنة ثواباً لمن أطاعه، والنار عقابا لمن خالفه وصد عنه.
وقد قام البيت الحرام منذ بنى وحتى اليوم بأعظم دور فى تزكية الأنفس، وتنقية الأفئدة، ودفع الأرواح إلى طاعة الله، فلا يفقدها حيث أمرها، ولا يراها حيث نهاها ... فما أعظم البيت الحرام، وما أعلى قدره، إنه نور الله فى أرضه، ونعمته على خلقه، وهو الواحة التى يفر إليها عباده فتزكوا نفوسهم وتطهر قلوبهم، وتمحى خطاياهم، وتغفر آثامهم، ويصبحون أهلاً لرحمات الله تعالى ونفحاته، ومحلاً لأسراره وفيوضاته، يدعونه فيجيبهم، ويسألونه فيعطيهم، ويستنصرونه فينصرهم، ويستعينونه فيعينهم.
وقد كان البيت العتيق منارة للملائكة، وأدم بين الماء والطين يطوفون حوله، ويبتهلون عنده، ويسبحون ويقدسون بين يديه ومن خلفه، ولما خلق أدم وأهبط إلى هذه الدنيا، نسج هو وذريته على منوال الملائكة فى تعظيم هذا البيت وتكريمه، واقتفوا آثارهم فى التضرع عنده، والدعاء بين يديه، وراحت القرون تتوالى قرناً بعد قرن، وأخذت الأحقاب تتالى حقبة إثر حقبة، وعبادة الله مستمرة حيال هذا البيت لا تنقطع، وتمجيده دائب حوله لا يفتر لا يضعف، وجاء إبراهيم وإسماعيل فرفعا قواعد البيت، وأعاد بنائه وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود.
هذه هى فكرة الكتاب "قصة البيت الحرام" الذى نستعرضه اليوم ..ألفه الأستاذ الدكتور عبدالعزيز غنيم أستاذ التاريخ الإسلامى فى جامعة الأزهر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية، وهو صاحب المؤلفات القيمة والرصينة فى التاريخ الإسلامى .. لم يشطح فيها، ولم يؤثر عنه أنه طبق النظريات المستوردة الغربية على تاريخ الإسلام كما فعل غيره فى الجامعات المصرية، وجاء كتابه هذا فى وجبات روحية ووقائع متأنية فى تعقل وتبصر وقد سلك المؤلف منهجاً فريداً مزج فيه بين المنهج العلمى والفقهى وكان حديثه فى إطار موضوعات اجتماعية ودينية وتاريخية لقيت هوى، وشفت غلة وروت غلة ، ثم تعرض للأحداث والوقائع التى واكبت البيت الحرام منذ بناء الملائكة له وحتى سقوط الدولة الأموية فى المشرق العربى.
فى الفصل الأول تناول المؤلف قصة الحرم الشريف بين بناء الملائكة وطوفان نوح، وبيّن المؤلف أنه لم يكن آدم أول من سكن الأرض، وإنما سبقها إليها شعوب شتى، وأمم مختلفة أستناداً لقول الكثير من المفسرين الذين قالوا أيضاً إن هذه الشعوب وهذه الأمم قد جاءت وطغت، وبغى بعضها على بعض، وأن الله تعالى قد بعث إليها من الملائكة من استأصل شأفتها وأبطل أحدوثتها، وجعلها أحاديث، ومزقها كل ممزق، ولما خلصت الأرض من شرها، جمع الله الملائكة فى صعيد واحد، وقال لهم "أنى جاعل فى الأرض خليفة"، وظن الملائكة ان هذا الخليفة سيقتفى آثار أسلافه وينسج على منواله ، فقالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، وأجابهم المولى تعالى:"إنى أعلم ما لا تعلمون"، ولكى يتثبت المولى لهم تسرعهم عقد اختباراً نجح فيه أدم ، فندموا أشد الندم، وأمرهم الله أن يبنوا له بيتاً، ويطوفون حوله كما كانوا يطوفون حول العرش، وامتثل الملائكة للأمر، وبنوا له بيتاً فى السماء السابعة أو السادسة، وسموه البيت المعمور وعلى غراره بنت الملائكة تحته مباشرة البيت الحرام فى الأرض، وكان ذلك قبل هبوط آدم إليها بألفى عام.
وعند هبوط آدم إلى الأرض عمد إلى إعادة بناء البيت وظل موجوداً حتى الطوفان ولم يتأثر به لأن الله حفظه، ثم جاء ابراهيم واستوطن المكان بالقرب من البيت، وجاءت قبيلة جرهم التى تزوج منها إسماعيل وشب إسماعيل وساعد أبيه على بناء البيت وبعد إتمام بنيانه دعيا المولى سبحانه: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم"، وتحقق دعائهما ومنذ هذا التاريخ ظل البيت مقصد الناس يحجون إليه ويبتهلون إلى الله أن يكفر ذنوبهم .
واستعرض المؤلف فى الفصل الثانى البيت الحرام فى عهد جرهم وخزاعة وحكم جرهم وحكم خزاعة، حيث ذكر أنه بعد موت إسماعيل ورثه أبنائه وهو "نابت"، ونسج على منوال أبيه فى إدارة شئون الحجاز، وتدبير أموره دون النبوة وفى عهده تدخل أخواله من جرهم فى الحكم، وأخذ نفوذهم يقوى ويشتد حتى كان السلطان إليهم وحدهم، وعندما رأى بنو بكر وبنو غبشان من خزاعة بغى جرهم وظلمها لحجاج البيت الحرام، واعتداءها على الأموال التى تهدى إليه فأجمعوا على حربها وإبعادها عن الحجاز إلى اليمن، ونشرت خزاعة العدل فى مكة وما حولها، وأزالت، وأزالت الظلم والجور، بيد أن هذا لم يستمر طويلاً، وارتكب أحد حكامها وهو عمرو بن لحى، وهو إدخال الوثنية إلى مكة ونصب الأصنام حول الكعبة ، وكان الناس آنذاك على دين إسماعيل، يعبدون الله الواحد، ولا يشركون معه شيئاً فى الأرض ولا فى السماء، ثم ينتقل المؤلف بعد للحديث عن عهد قصى بن كلاب وهو أحد أحفاد إسماعيل وظهوره بعد تجبر خزاعة وخلفه أولاده على أمر البيت الحرام، ثم يتحدث عن حملة إبرهة لهدم الكعبة وحماية الله لها .
ثم يتناول فى الفصل الرابع مكة فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم وحفر عبدالمطلب لبئر زمزم، وميلاد النبى وظهور دعوته، ومازال المؤلف فى أسلوبه الشائق العذب يتتبع أحداث التاريخ التى وقعت فى مكة فى ذلك الوقت فيتحدث عن الذبيح عبدالله، وزواج عبدالله بن عبدالمطلب، وظهور الإسلام وعرض النبى نفسه على القبائل ومغادرته - صلى الله عليه وسلم - مكة وهجرته إلى المدينة، وتعطش المسلمين فى المدينة وحنينهم إلى مكة والبيت الحرام وعمرة القضاء وثم يعرج ليتحدث عن فتح الفتوح (فتح مكة) وحجة الوداع، ثم يختتم كتابه بالحديث عن مكة فى عهد الراشدين والأمويين.