لا تغيب عن ذهن المسن الفلسطيني مصطفى الجزار (71 عاما) مشاهد "المجزرة" التي ارتكبتها إسرائيل، في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، في الأول من أغسطس/آب، إبان الحرب على القطاع صيف العام الماضي 2014، والتي راح ضحيتها أكثر من 135 فلسطينيا في غضون سويعات. ولا تزال مشاهد استهداف المقاتلات الإسرائيلية لعشرات المنازل المدنية بشكل متزامن، وتناثر الجرحى، وجثث القتلى في طرقات الأحياء الشرقية لمدينة رفح، وأصوات القصف المدفعي العنيف "والعشوائي"، وصراخ النساء، ومحاولات الأطفال الاختباء في الأزقة الضيقة، حاضرة في ذاكرة "الجزار"، فهو لم يرى مثيلا لها منذ ولادته عام 1944. وتقول منظمة العفو الدولية، في تقرير أصدرته الأربعاء الماضي، إن إسرائيل شنت في ذلك اليوم "عمليات انتقامية ضد الفلسطينيين، ردا على أسر أحد جنودها في مدينة رفح. واتهم التقرير الذي حمل عنوان "الجمعة الأسود: مجزرة في رفح أثناء نزاع إسرائيل/غزة 2014) الجيش الإسرائيلي بارتكاب "جرائم حرب" في ذلك اليوم، وهو ما رفضته الحكومة الإسرائيلية، وأصدرت بيانا تندد فيه بالمنظمة الدولية. وبينما يتنقل الجزار بين شوارع وأزقة "المدينة المنكوبة" تستعيد ذاكرته التفاصيل الدقيقة لتلك المجزرة التي وقعت في الأول من آغسطس/آب 2014، خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي بدأت في السابع من يوليو/ تموز من ذات العام وانتهت بعد 51 يوما، مخلفة أكثر من ألفي قتيل، ونحو 11 ألف جريح، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية. ففي ذلك اليوم وأمام هول مشاهد الدماء، والقصف الشديد والمتواصل، والنيران المنبعثة من كل مكان، لم يتمالك العجوز "الجزار" نفسه وأخذ يركض بحثا عن مكان آمن، خاصة بعد أن تعرضه للاختناق نتيجة للغبار الكثيف المنبعث من المنازل المستهدفة. ولا ينسى العجوز الفلسطيني رؤيته لعشرات الجرحى، وجثث وأشلاء القتلى، التي كانت متناثرة في الطرقات وبين الأزقة وتحت أنقاض المنازل المستهدفة، دون أن تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول إليها نتيجة لشدة القصف. ويقول "الجزار" لمراسل وكالة "الأناضول": "كان المشهد مرعبا فجثث وأشلاء ودماء الشهداء في كل مكان والجرحى يصرخون دون مجيب فسيارات الإسعاف كانت عاجزة عن الوصول لموقع الحدث نتيجة لشدة القصف، ما اضطر سكان المدينة لنقل من يستطيعون من جرحى على عربات تجرها الحيوانات أو بواسطة الدراجات النارية". ويضيف : "في كل ثانية كانت تسقط قذيفة من المدفعية الإسرائيلية، أو صاروخ من الطائرات، وأبشع ما شاهدت، هو لحظة هروب النازحين من المناطق الشرقية لمدينة رفح، واستهدافهم من مدفعية وطائرات الجيش الإسرائيلي ما أدى لمقتل معظمهم". وتابع "كان النازحين وعددهم يزيد عن السبعين نازحا، يركضون وعلامات الخوف تملأ وجوههم، وفور وصولهم إلى أحد الطرق الترابية الموصولة للمناطق الغربية لمدينة رفح، شنت الطائرات الإسرائيلية غارات على المنازل المحيطة بهم، كما واستهدفتهم بشكل مباشر". واستطرد الجزار "بعد قصفهم تطايرت أشلائهم لمسافة تزيد عن 200 متر، وقتل معظمهم وجرح البقية، وتمكن عدد قليل من النجاة، وفي ذلك الوقت لم تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول إليهم فتم نقلهم للمستشفى على عربات تجرها الحيوانات". وفي ظل القصف الشديد الذي تواصل لعدة ساعات تمكن العجوز الفلسطيني من الهرب، وتقدمت عشرات الآليات العسكرية الإسرائيلية بعد ذلك نحو 4 كيلو متر داخل الأحياء الشرقية لمدينة رفح، وتعود للانسحاب بعد ساعات مخلفة عشرات جثث القتلى، والمنازل المدمرة. وفي اليوم التالي عاد المسن "الجزار" إلى منطقة "المجزرة" ليتفقدها، فوجد كل شيء قد أصابه الدمار، فعشرات المنازل المتجاورة قد قصفت وأغلق ركامها المتناثر الطرقات، والدخان الأسود يتصاعد من نقاط متقاربة، وجثث القتلى لا زالت في مكانها. ورغم توقف القصف إلا أن سيارات الإسعاف، عجزت أيضا عن نقل جثث القتلى، بسبب إعلان المنطقة المستهدفة من الجيش الإسرائيلي بأنها "منطقة عسكرية مغلقة"، ما اضطر الفلسطينيين لنقل قتلاهم في سيارات مدنية، وعربات، ودراجات نارية. وبرر الجيش الإسرائيلي القصف الذي تعرضت له مدينة رفح في 1 أغسطس/ آب 2014، وخلف عشرات القتلى الفلسطينيين، رغم دخول "تهدئة إنسانية" حيز التنفيذ، بأنه جاء عقب خطف مقاتلين فلسطينيين لجثة الضابط في الجيش "هدار غولدين"، بعد مقتله في كمين نفذته كتائب عز الدين القسام الجناح المسلح لحركة "حماس" شرقي رفح. ولا زالت إسرائيل تتهم حركة "حماس" باحتجاز جثة غولدين، وهو ما لم تؤكده الحركة أو تنفه. وفي سياق الحديث عن تفاصيل ذلك اليوم "الذي يصفه الفلسطينييون ب"الجمعة السوداء" أو ب"المجزرة"، يقول الطبيب خالد معراج، وهو مدير قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى "الشهيد محمد النجار" في رفح: "عشنا أوقاتا قاسية وعصيبة للغاية فقد استقبلنا في ذلك اليوم عشرات الشهداء والجرحى والنازحين وهو ما يفوق بطاقة المستشفى الإستيعابية، وكان ذلك وسط قصف جوي ومدفعي عنيف طل محيط المستشفى وألحق بها أضرار بالغة". ويضيف معراج ل"الأناضول" : "استشهد في ذلك اليوم أكثر من 135فلسطينيا جميعهم من المدنيين ومعظمهم من النساء والأطفال، لم يتمكن الأطباء في ذلك اليوم من السيطرة على كامل الحالات التي تصل رغم استعداداها المُسبق وبقائها في حالة طوارئ". وتابع:" كانت الجثث ملقاة في ممرات المستشفى، والجرحى لم تتسع لهم الغرف، والأطباء كان كل واحد منهم منشغل بعدة حالات في وقت واحد". ويكمل:" كان أصعب موقف تعرضنا له هو عندما طلب الجيش الإسرائيلي من مدير المستشفى إخلائها بشكل فوري، وحينها تعرض الجزء الغربي منها للقصف بشكل مباشر، فاضطررنا لنقل جميع الجرحى وجثث الشهداء لمستشفى صغير غير مؤهل للعمل في مثل ظروف الحرب ولا يمكنه استيعاب تلك الأعداد من الجرحى والشهداء". ويشير إلى أن الأطباء اضطروا للعمل في "موقف للسيارات"، واستخدموا ثلاجات المرطبات والخضروات لحفظ جثث القتلى. ونشرت منظمة العفو الدولية وفريق البحث المعني بمشروع "فورنسيك آركتكتش" (بنية الأدلة الجنائية) الأربعاء الماضي، أدلة جديدة تُظهر أن القوات الإسرائيلية ارتكبت في ذلك اليوم، "جرائم حرب" انتقاماً لوقوع أحد جنودها في الأسر بمدينة رفح. وتتضمن الأدلة، بحسب المنظمة، تحليلاً مفصلاً لكمٍ هائلٍ من المواد متعددة الوسائط، وتشير إلى وجود نمط منهجي ومتعمد على ما يظهر تتسم به الهجمات الجوية والبرية التي شنها الجيش الإسرائيلي على رفح وأدت إلى مقتل 135 مدنيا، بما يجعلها ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية أيضاً. ويورد التقرير المنشور على شبكة العفو الدولية بعنوان "يوم الجمعة الأسود" مجزرة في رفح أثناء نزاع إسرائيل/ غزة 2014' تقنيات تحقيق متطورة وتحليلاً ريادياً من إعداد فريق مشروع "فورنسيك آركتكتشر" في جامعة غولدزسميث بلندن. وعلى مدار "51 يوما" تعرض قطاع غزة، والذي يُعرف بأنه أكثر المناطق كثافة للسكان في العالم، (1.8 مليون فلسطيني) لهجوم عسكري إسرائيلي جوي وبري أدى إلى مقتل 2147 فلسطيني من بينهم 578 طفلا، و489 امرأة، و102 مسن، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فيما جُرح 11 ألفا آخرين. في المقابل، كشفت بيانات رسمية إسرائيلية عن مقتل 68 عسكريًا من جنود جيش الإحتلال، و4 مدنيين، إضافة إلى عامل أجنبي واحد، وإصابة 2522 إسرائيلياً بجروح، بينهم 740 عسكريًا، حوالي نصفهم باتوا معاقين، بحسب بيانات عبرية نشرت الأسبوع الماضي.