فى الثلاثين عامًا الماضية، استعاض السلفيون التهميش الرسمى والقمع الأمنى لهم، بالتوجه نحو المجتمع وتضميد جراحه اليومية، وتركوا السياسة تحت وطأة الأحذية الميرى الخشنة.. وبالتزامن مع ذلك وثقت ما تسمى ب"القوى المدنية" بالنظام الذى قرّبهم إليه بالمنح السياسية "الأحزاب" وبالمكافآت المالية "وزارة الثقافة" فتركوا المجتمع ويمموا وجوههم شطر البيت الرئاسى مرددين آيات التزلف له ولزوجته وأبنائه وحاشيته.. فخسروا "المجتمع" من جهة وتكلسوا عند عتبات "كى جى ون" سياسة ولم يتعلموا إلا التزلف للباب العالى من جهة أخرى. بعد قيام الثورة لم تجد القوى المدنية أية قاعدة اجتماعية صلبة أو عشر صلبة، يعتمدون عليها حال أجريت انتخابات بعيدا عن الغش والتزوير.. فيما افتقدوا إلى الخبرات السياسية التى تمكنهم من إعادة تأهيل أدواتهم فى اتجاه منافسة القوى السلفية على الولاء الاجتماعى، حيث تحولوا إلى قوى عاجزة و"كسيحة" وسط قوى أخرى نشطة اكتسبت المصداقية الاجتماعية عبر تراكم خبرات إنسانية اعتمدت على "التراحم" وليس "العزلة" والاستعلاء أو تبلد المشاعر إزاء المجتمع، .. والصفات الأخيرة اجتمعت كلها فى التكوين النفسى للنخبة العلمانية فى مصر. لا شك أن صدمة ما بعد الثورة.. أحالت القوى المدنية فى مصر، إلى "قوى عدوانية" تعيد انتاج مشاعر عجزها وتقزمها فى صورة مواقف تتسم بالكراهية إزاء الجميع، سيّما تلك القوى التى ترى أنها خذلتها، رغم أنها لم تكن يومًا ما على أجندتها اليومية وهى ترفل فى نعيم مبارك (أحزاب وصحف وفضائيات ونجومية وما شابه).. ولعل ذلك ما يفسر عدوانية هذا التيار إزاء المجتمع بعد استفتاء 19 مارس.. وعدوانيته إزاء الجيش بعد أن رفض الأخير النزول عند مؤامرات النخبة العلمانية المطالبة للقوات المسلحة الاستيلاء على السلطة خوفًا من الإسلاميين.. فضلا عن عدوانيته ووحشيته فى التعاطى مع المنافس الإسلامى الذى بات مرشحًا لحصد أوراق اللعبة السياسية الآن فى الانتخابات البرلمانية والمستقبل القريب أيضا بشأن استحقاقات ما بعد الانتخابات. ربما يكون السلفيون قد خسروا "السياسة" خلال الثلاثين عامًا الماضية، ولكنهم كسبوا "المجتمع".. والأخير يظل هو المكسب الأكبر، فالسياسة يمكن تعويضها بالتدريب والمران والمشاركة والمحاولة والخطأ.. وهى فى مجملها طرق التعلم الطبيعية والمتعارف عليها تربويًا، وتثمر بالتراكم انتاج رجال دولة حقيقيين.. يكتسبون شرعيتهم من "الشعبية العفوية" وليس من "الإكراه الأمنى" للدولة. العلمانيون خسروا كل الأوراق المؤهلة للتفوق السياسى.. لأنهم لم يشتغلوا سياسة أصلا، إلا فى مدرسة مبارك أو بالأحرى الخدمة تحت أحذية أجهزته الأمنية التى أغدقت عليهم بالكثير.. ولم يحترموا المجتمع .. ففقدوا احترامه لهم.. ولم يعد أمامهم إلا التآمر على الجميع أو "شتم" الشعب وإهانته كما يحدث الآن بعدما خسروا الجولة الأولى من الانتخابات. [email protected]